شعار قسم مدونات

لا.. لم نظلم الدولة العثمانية

blogs - قيامة أرطغرل
مع انتشار المسلسل التركي "قيامة أرطُغرُل"، ونجاحه غير المتوقع بين فئات كبيرة في الشارع العربي، من الخليج إلى المحيط، لا سيمّا بين إخواننا الباحثين عن أمجاد يخففون بها من وطأة فشل رؤاهم التاريخية، راح يلوح في أفق كثيرين عدد من الأسئلة عن الحقبة العثمانية أو ما يحب بعضنا تسميتها بـ"الخلافة العثمانية". أذكر منها:
– هل كان الأتراك بالفعل هكذا كما يصور المسلسل؟!
– هل كانوا حقا حماة الإسلام حينما كان يتصارع العرب وباقي الملل فيما بينهم؟!
– هل كان آل عثمان فاتحين لبلاد العرب أم غزاة احتلوا الأرض ونهبوا خيراتها؟

في الحقيقة، تتفق شريحة كبيرة جدا من العرب شرقا وغربا، ومن ملل أخرى (أكراد، قوقاز، البلقان)، على أن الدولة العثمانية لم تقدم لهم انجازات جديرة بالتقدير، خلال كثير من سنوات سيطرتها على أراضيهم، بل ويدّعي كثيرون أن الدولة العثمانية متمثلة في ولاتها ووزرائها، سلبت خيرات كثيرة وثروات طائلة من مختلف الأقاليم، وتم توزيعها بطرق جائرة في أمور لا تمس للدين الإسلامي بصلة، ونقل غالبيتها إلى العاصمة إسطنبول، دون العبء بحقوق سكان باقي المناطق.

ودون الدخول في سرداب إثبات أو نفي هذه الادعاءات – لا أرى نفسي أهلا لذلك – أرغب في توضيح أن غالبية المصادر التاريخية في هذا الشأن (عربية وتركية) تشير إلى إخفاق الدولة العثمانية بصفة عامة في انجاز أية استثمارات كبيرة، من شأنها تحقيق نهضة متكاملة في أقاليم حكمها، رغم عمرها الطويل الممتد إلى نحو ستة قرون. قد تكون الدولة العثمانية نجحت في تمهيد عدد من الطرق، وإنشاء خطوط من السكك الحديدية، وشق ترع وقنوات للري، لكنها مع الأسف افتقرت الأهم من كل ذلك؛ ألا وهو الاستثمار في العنصر البشري، الإنسان.

ليت الدولة العثمانية أولت العلم وتوعية العامة، نصف اهتمامها بالغزوات، أعتقد أنها لبقيّت شامخة حتى اليوم
ليت الدولة العثمانية أولت العلم وتوعية العامة، نصف اهتمامها بالغزوات، أعتقد أنها لبقيّت شامخة حتى اليوم

كذلك، لا أحد ينكر طبيعة الأتراك القتالية الماهرة، منذ عهود القبائل المتصارعة وسط آسيا، ومرورا برحلات هجرتهم نحو الأناضول، وفترة تأسيس الدولة على يد أرطُغرُل وأبنائه من بعده، وحتى أزهى عصور الدولة في عهد السلطان ياووز سليم (سليم الأول)، وابنه السلطان سليمان القانوني، ما أهلهُم بشكل أساسي في تحقيق ما وصلوا إليه.

نعم، الأتراك قوم عُرفوا بالاجتهاد والمثابرة عبر التاريخ، وحتى اليوم (من يعاشر الأتراك يعي ذلك)، وأعتقد أن الله قد كافئهم أيضا عبر التاريخ على ذلك، ورزقهم كثير من النعم والجنان في الأرض، وهذا قانون طبيعي أيدته كافة الشرائع (من جد وجد).

لكن الخطأ الكبير الذي وقع فيه آل عثمان، أنهم لم يقرأوا التاريخ جيدا، ولم يستفيدوا بالقدر الكافِ من العبر الواردة به، أقاموا دولة كبيرة على أساس القوة الذي تربوا عليه، و رسخوا قواعدها على أساس فكرة الغزو (الجهاد في سبيل الله)، دون الانتباه إلى أن كل قوي يضعف، والقوة الجسدية بدون عقل رشيد، سرعان ما تنهار. ليت الدولة العثمانية أولت العلم وتوعية العامة، نصف اهتمامها بالغزوات، أعتقد أنها لبقيّت شامخة حتى اليوم.

الفقر الفكري الملحوظ في العهد العثماني، وقلة ظهور أيدولوجيات جديدة، أو تيارات فكرية أصيلة، تتسم بالاستقلالية والابتكار، وهو أمر مرتبط بشكل أساسي بضعف الاستثمار في عقل الإنسان.

أستغرب كيف كان يهنأ "الخليفة" بالنوم وغالبية رعيته لا تجيد القراءة والكتابة! تُرى هل لم يخطر بباله يوما ما وهو جالس فوق عرشه في قصر "دولمه باهجه"، سبب تخلف شعبه وتفشي معتقدات السحر والشعوذة بين أقطاره؟! ألم يلاحظ النهضة العلمية في الغرب القريب؟ ألم يتساءل بينه وبين نفسه عن سبب اختفاء طبقة العلماء والمفكرين في دولته؟! هل تصدقون أنه لما انهزم الإيطاليون في ليبيا واضطروا إلى الانسحاب عقب الحرب العالمية الثانية، أرسلت عصبة الأمم وفدا أمميا لدراسة مدى ملاءمة المجتمع في إقليمي برقة وطرابلس، للاتحاد ونيل الاستقلال، وكانت نسبة الجهل والفقر بين الليبيين متساويتين. 90% من الشعب لا يعرف القلم والكتاب! لا يتقن سوى الفلاحة واستخدام البندقية!

وبعد ذلك، يتساءل الأتراك غاضبين لماذا اتحد العرب مع بريطانيا وفرنسا وطعنونا من الخلف (خلال الحرب العالمية الأولى)؟! وبعض آخر يتساءل كيف قَبِل العرب أن يكونوا خنجرا في جسد إخوانهم المسلمين؟ وليت هؤلاء يسألون أنفسهم، كم كان عدد الولاة الصالحين، والقضاة العادلين، والعلماء النابغين، والمُعلمين الواعين، والأطباء المتقنين في بلاد العرب في تلك الحقبة؟! وقد يفسر ذلك، الفقر الفكري الملحوظ في العهد العثماني، وقلة ظهور أيدولوجيات جديدة، أو تيارات فكرية أصيلة، تتسم بالاستقلالية والابتكار، وهو أمر مرتبط بشكل أساسي بضعف الاستثمار في عقل الإنسان.

إنها سنة الله في الأرض. الاجتهاد، والأخذ بالأسباب، والتطور. من تركها وآثر البقاء في بيته أو حِصنه أو قصره، راحت عليه دنياه، أمّا آخرته، فهو أمر ليس من شأني الكتابة عنه. أذكر من سيرة الخليفة عمر بن الخطاب، حرصه الواضح خلال سنوات حكمه على عدد من القيم الرئيسية التي شكلت عماد دولته، لعل أبرزها: العمل الدؤوب، والاجتهاد ومنافسة النفس، والشورى والأخذ بالأسباب، والعدالة ومحاربة الفساد، والتنظيم والإدارة وفقا لأساس الكفاءات، وأخيرا المكاشفة ومراجعة النفس والتوبة (تصحيح الأخطاء).

هذه القيم بالتحديد، ما تسعى ديمقراطيات العالم الحديث إلى تحقيقها. وهذا أيضا ما أهمله غالبية آل عثمان وولاة أقاليمهم، حتى وصلت علاقتهم مع التاريخ إلى طريق مسدود، وصارت الساحة مهيئة أمام الذئب الغربي لقيادة الأغنام العربية طيلة القرن الماضي. وبكل أسف ها نحن اليوم نشاهد فشلنا في إدراك الخطأ العثماني، واصرارنا على مناطحة بعضنا البعض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.