شعار قسم مدونات

مريم ابنة عمران.. عن الأخذ بالأسباب

Blogs- woman
كثيراً ما استوقفتني فكرة الرضى بما قسم الله لنا في الدنيا، وأن تكون حياتنا كما لو أنها وصفة منسوخة قابلة للتكرار دون أن نبادر باندفاعنا نحوها، ودون أن نبدي أدنى لمسة فيها، ودون أن نترك لكياننا أثر. ناهيك عن تلفّظ الناس من حولي بكلمات كالّذين يقولون "هذا قدري، هكذا كتب الله لي، الدنيا حظوظ وهذا حظي منها"، ووجوههم يعتليها السواد وكأنهم يقولون لماذا فعلت بِنَا هذا يا الله! فيتوقف طموح الحياة عندهم في محطة ما، وهم في الحقيقة يمثّلون الرضى بالقدر، لم يرضوا عن أنفسهم لأنهم لم يفعلوا شيئاً تجاه أقدارهم تلك.
رسخوا في أذهاننا بأن كل ما يحدث لنا خيراً كان أم شراً هو من قضاء الله وقدره، وأن الاستسلام والإذعان للأمر الواقع هو ما يتحتم علينا فعله، وما يعقب هذا التفكير لا شعورياً يندرج تحت مفهوم القناعة، لكنهم لم يدركوا أبداً أنهم بهذا علمونا أن نكون في عداد المؤمن الضعيف! وأعلم أن أمر المؤمن كله خير لكن من منظور البشر فهم يلبسون ثوب الخير لما يناسب أهواءهم، ويرضيهم وغير ذلك فهو الشر بعينه.
        
خدروا عقولنا بالمفاهيم المغلوطة في ديننا، وجعلوا منا أشخاصاً حبيسي الفكر، لَم يعلّمونا كيف أن المسبّب متزامناً مع التوكل على الله هو الأهم، وأن مواجهة المعضلات التي تعترض مسيرتنا ومقاومتها في سبيل تحقيق ما نصبوا إليه، واستنفاذ كل ما آتانا الله من طاقة وقوة حتى آخر رمق، عندها فقط نكون قد أصبحنا في عداد المؤمن القوي!
                     
لا تتغاضى عن المآزق التي تمر بك صغيرها وكبيرها، وضعها موضع المواجهة قبل أن تتأوّه قاطباً حاجبيك
لا تتغاضى عن المآزق التي تمر بك صغيرها وكبيرها، وضعها موضع المواجهة قبل أن تتأوّه قاطباً حاجبيك
                  
تعجبني قصة مريم ابنة عمران، فبعد أن كان يدخل عليها زكريا -عليه السلام- المِحْراب ويرى ما عندها من أطايب الطعام في غير مواسمه، فيعجب سائلاً إياها: أنّى لك هذا يا مريم؟ فتقول: هو من عند الله!  إذاً إن الله قادرٌ على أن يجلب لها رزقاً مما لا يخطر لها بغير حساب، فلماذا يأمرها عز وجل ساعة الولادة أن تهُزّ جذعاً يابساً؟ وأيُّ قوة تملكها امرأة نُفَساء وضعت حملها للتّو! امرأة خائفة، بائسة، يائسة، ضعيفة، تترنح بُنيتها من ألم ما بعد الولادة، لا معين لها سوى نفسها، وبحوزتها طفل حديث الولادة لا تفقه في شأنه شيئاً بعد، وكيف لها أن تفعل ما يوازي قوّة رجلين ربما، وقد كان من الممكن أن يحني الله لها الجذع دون أن يُضنيها عناء ذلك. 
       
ولكن الله أراد لها آية ألا وهي الأخذ بالأسباب ولو بهزة ضعيفة نحيلة ليأتيها غذاؤها في قوله تعالى "تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا" وتقر عينها بعد ذلك، من هذه الرسالة الكونية نخوض في زحام الحياة التي أضعنا فيها كثيراً من المسببات، وسوّغنا لأنفسنا كثيراً من المبررات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فغاب عنّا احترام قانون رعاية الأسباب الذي تتجلى فيه العبودية لله، "إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، فَأَتْبَعَ سَبَبًا"، ولو أمعنّا النظر في تفاصيل الكون لرأينا كيف خلقها الله كلها على مبدأ السببيّة!
       
فذاك الذي يجلس في عقر داره يتململ مشعلاً سيجاره، غير آبهٍ بأطفاله، لا يكلف نفسه عناء البحث والسعي الدؤوب عن عمل يقتات منه، يريد للقمة أن تلقى في فمه دون حراك، ثم يتقمّص دور الضحية التي أودى بها القدر إلى حاله الفقير، وعلاوة على ذلك ودون أن يدرك يصور مشهداً حياتياً خاطئاً في التربية فيحشو في عقول أطفاله سُمّ الرضوخ للواقع وتشويه الصورة الحقيقة للقضاء والقدر، ماذا صنع هذا بحق نفسه! لقد تجاوز سبباً كان من الممكن أن يقلب موازين دنياه، ثم كيف له أن يعزو ما هو عليه إلى أقدار الله! إن هذا لسوء أدب في التعامل مع الله وظلم في حقه سبحانه، وهو الآن محاسب على تقصيره. 
                  
لو وددت يوماً أن تكون شيئاً وتراه بعيداً ولا سبيل لحدوثه، فعليك بالدعاء مع اليقين، فهو أجمل بل أعظم ما يكون من الأسباب

لا تتغاضى عن المآزق التي تمر بك صغيرها وكبيرها، وضعها موضع المواجهة قبل أن تتأوّه قاطباً حاجبيك، وينطق لسان حالك بما لا يليق بإرادة الله وأنت الذي لم تخرج عن سكونك، فتهيم على وجهك متخبطاً في ظلمك لتقادير الله، حاشاه وكلا! "وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ"، "وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"، كما أنه على الإنسان ألا يتوكل على أسبابه نائياً بفكره عن حقيقة التوكل على الله وكأنها على الهامش، فعليه أن يوفق بين الأمرين، فإن كان يملك مالاً أو جمالاً أو جاهاً أو منصباً أو ذكاءاً واستغل إحدى تلك النعم والتي هي من عند الله ليبلغ مراده متجرداً من يقينه به تعالى ثم فشل، فلعله لم يدرك حقيقة أن الأمر كله بيد الله يقلبه كيفما يشاء وما كان ما يملكه إلا سبب!

                                                                 

إن موضوع الأخذ بالأسباب أشبه بالسلسلة سبب يتبعه سبب فنتيجة، كغرزة الصوف إن لم تحِكها بترتيب وإتقان تعقدت فبَان عيبها، وصدقني تفصيل صغير جداً قد يغير شكل الحكاية، فعندما تتعرض شركة حافلات تقلّ ركاباً من مدينة إلى أخرى لحادث، وتزهق أرواح كل من السائق وأغلب الركاب فيها، والسبب هو قِدَم الإطار! ولكن المسؤول عن الفحص الدوري للإطار تفقّده ثم قال للسائق "توكل على الله سيحتمل قطع مسافة الرحلة، وهذا أمر بسيط لا يضر حالياً فلا داعي لتغييره" إن هذا لا يدخل ضمن دائرة القضاء والقدر، والشخص الذي تغاضى عن مشكلة قدم الإطار واستهان بها أصبح قاتلاً فعلاً، فالحافلة تقلُّ أرواحاً وليس دمى!

                      
كما لفتتني فكرة الحرص على أولوية انتقاء أحسن وأجود الأصناف في كل شيء قدر المستطاع ليس فقط لرفع الملامة عن كاهلنا، فبالرغم من الجوع الشديد الذي اعترى أصحاب الكهف إلا أن أحد الفتية ذكّرهم فقال "فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ"، وإن كان لا بدّ من ذكر، فهو قدوتنا رسول الله ومثلنا الأعلى -صلى الله عليه وسلم- كيف بدأ راعياً للغنم ثم أصبح قائداً للأمم، وكلنا على علمٍ ودراية بما جابه حتى الرمق الأخير في حياته ليصل إلى ما وصل إليه، فأين نحن منه!
     
حريُّ بِنَا أن نستيقظ من سباتنا ونصارع لبناء الإيمان السويّ فينا، وتغيير طريقة تأويلنا للدين، وأن نعتاد على اتهام انفسنا ومحاسبتها في سفاسف الأمور حتى تلك التي لا نلقي لها بالاً، وقد كان لزاماً علينا فعلها وتصوّر نتائجها حتماً قبل أن ننسب ما وصلنا إليه بأيدينا إلى الذات الإلهية. لو وددت يوماً أن تكون شيئاً وتراه بعيداً ولا سبيل لحدوثه، فعليك بالدعاء مع اليقين فهو أجمل بل أعظم ما يكون من الأسباب التي قد تهيئ لك كل الأسباب من حيث لا تحتسب، بل ويغير مجرى الأقدار التي خِلتها مستحيلة، ويخطها من جديد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.