شعار قسم مدونات

هناك وقت دائما للاحتفاء بالجمال والرقة

blogs - سعادة

لا شيء في هذه الدنيا يضاهي الشعور بالفن بحواسك، أشعر أنها تتعدى العشرة وتفيض حواس لم أختبرها في حياتي كلها، هذه المقدرة الغيبية، الغيمة الشفافة التي ترفعني عن الأرض الحقيقية درجة، ارتفاع يصبح معه كل شيء قابلا للتصديق، غاية في المعنى، مغمورا بالدقة والوهم في آن واحد.

قلبي الذي يصبح زورقا أزرق يتردد صدى موجه في صدري كأغنية لا أريد لها أن تنتهي، هذه القداسة الأخاذة في استحضار الشعور، في كل مرة يسرقني فيها الواقع من خيالاتي البعيدة، ويقذفني عنوة في قذارة المدينة وبين بشر لا يعرفون كيف يضحكون حقا، متقنعين بابتسامات بلهاء تعلو صفحات وجههم مثل كذبات نيسان.

الجمال هو كل اللذة الخالصة التي تدفق في داخلك جراء صوت الكلمات ودهشة الألوان وتراكيب النوتات، الجمال يجيء كل يوم مثلما تشرق الشمس ومثلما تنهارالشلالات ومثلما تغضب البراكين وترقص الغيمات، الجمال في كل شيء، في الطريق والسماء والحائط والنافذة، في كوب القهوة وصوت القطط وأبواب الدكاكين وسلات الفاكهة على أرصفة الطريق، لكنك أصم وأبكم وضرير لم تشعر بالامتنان يوما واخترت أن تنصت لصوت الضوضاء وتنظر بعينك نظرات باردة وتتكلم بلسانك وأصابعك حديثا فاترا عوضا عن أن تنصت وتنظر وتسمع بقلبك.

الحياة لن تعطيك فرصة للوقوف في المتاحف على الدوام، لن تعطيك وقتا لحضور كل الأمسيات والمعارض في مسرح مدينتك، لن تسمح لك أن تكتب أو ترسم أو تغني كل يوم، ولن تدعك تضحك ساعة كاملة دون أن تشعر بالوخز يمين صدرك.

أتفهمني؟ إن لم تقرر أن ترى الجمال وتجلس بقربه سيرحل عنك ولن تجده أبدا، ولو زرت أضخم متاحف العالم.

تصوري عن السعادة أن أصل إلى آخر أيامي وما زلت أملك القدرة نفسها على الاستمتاع بكل الأشياء التي أحبها، أن أغني ويبقى شعوري بذات الشجن حتى بعد أن تترهل حبالي الصوتية
تصوري عن السعادة أن أصل إلى آخر أيامي وما زلت أملك القدرة نفسها على الاستمتاع بكل الأشياء التي أحبها، أن أغني ويبقى شعوري بذات الشجن حتى بعد أن تترهل حبالي الصوتية
 

الجمال كائن صغير بأصابع رقيقة كأصابع الجراحين والرسامين، بعينين زرقاوتين حالمتين كسماء الربيع الصافية بقدٍّ هزيل وصوت موسيقي ساحر، تذوب معه كل الشرور في حياتك، يسكن في يمين قلبك، تحت جلدك وبين أسنانك وأنفاسك، خذ بيده وشاهد معه كيف أن الحياة مزيج مذهل من التعب والراحة، الشمس والظل، العطش والماء.

كيف أن صخب الشارع العام وتأخرك عن العمل جزء من دورة الحياة، أن فشلك ووقوعك على وجهك ليس إلا كي تتعلم أن تنظر بحذر أين تضع مواطن قدمك وفي أي الأيدي تضع يدك في المرة القادمة.

الحياة دون عمل حجيم محض، دون تعب وكد لا جوهر لها ولا معنى، أن تجلس تراقب دون مجهود، ودون مهام وأهداف وطموح ترنو وتناضل من أجله، أحقا هذا هو تصورك عن السعادة والعيش الرغيد؟

إن هذا التصور محشو بالكسل والكآبة والخداع الملفق، إنها خدعة القرن العشرين التي تشرّبها الإنسان مع الحليب، المشهد المؤطر عن الجنة الدنيوية والسعادة الأزلية حتى آخر أيام العمر، بحر أبيض وسماء صافية لا تشوبها غيمة والكثير من الخدم والرفاهية الفارهة. 

لم يكن تصوري هذا عن السعادة في كل مرة قرأت أو سمعت عن هذه الكلمة، كان هذا التصور محصورا فقط على عطلة سنوية استكشافية، مغامرة متحررة بعد عام من العمل، أحقية طبيعية على كل الجهود المبذولة لا مبتغى وأمنية وحلم بعيد.

تصوري عن السعادة أن أصل إلى آخر أيامي وما زلت أملك القدرة نفسها على الاستمتاع بكل الأشياء التي أحبها، أن أغني ويبقى شعوري بذات الشجن حتى بعد أن تترهل حبالي الصوتية ويضعف سمعي، ألا أفقد دهشة الطفولة بالهدايا والكعك والفطائر الساخنة وأن تبقى قصائدي المفضلة محفوظة في ذاكرتي مهما جار الزمن على الفن والأغنية القديمة.

هناك سماء غنية الزرقة وأشجارا مناضلة تنبت حتى في أشد المواسم حرارة، وهناك ساق أخضر منبثق من بين حجارة الطريق المرصوصة كما لو أن الساحة العمرانية برمتها لا تعنيه
هناك سماء غنية الزرقة وأشجارا مناضلة تنبت حتى في أشد المواسم حرارة، وهناك ساق أخضر منبثق من بين حجارة الطريق المرصوصة كما لو أن الساحة العمرانية برمتها لا تعنيه
 

أبقى وأنا أستشف الجمال من كل شيء وأشرب الشاي في الأكواب التي أحب كما اعتدت أن أفعل دائما، محفوفة بالمناديل والدانتيل والرقة، وأبقى هكذا في هالة سحرية مهما عصرتني الحياة ودوختني، متسامحة معطاءة ومحبة وممتنة لكل الجمادات والنباتات والقطط والأسماك ولكل الأيدي التي لم تخذلني في منتصف الطريق وللوجوه التي عادت بعد أن فقدت فيها الأمل والعودة.

أن أجد اللوحات والكتب ذات قيمة لا حبرا وألوانا وتراهات على ورق، أن أجد وقتا لتقدير الجمال والاحتفاء به والوقوف على تفاصيله وألا يصبح هذا طقسا قديما، مضيعة للوقت، نكتة أتناقلها بعد أن تسحقني الحياة باحثة عن قوت يومي وفواتير بيتي.

أعلم أن الحياة لم تكن وردية أبدا وليس فيها نهايات سعيدة كما يحدث في الكتب والأفلام، أعلم أن أطباق الطعام لا تقدم على صفائح من ذهب وفضة، كما أعلم أن هناك بشرا لا يملكون سقوفا إسمنتية ولا ضوءا يرون من خلاله الطريق ولا لحافا وثيرا أيام البرد والثلج القارس ولا ماء نظيفا يروي الظمأ ولا طعاما يجلس في حيز بطونهم المجوفة، أعلم أن الحروب والدمار والجوع والبكاء في كل مكان.

لكنني أعلم أيضا أن هناك الكثير ممن يملك كل هذه الأشياء ولم يشعر بالامتنان والدفء نحوها أبدا، أعلم أيضا أن هناك سماء غنية الزرقة وأشجارا مناضلة تنبت حتى في أشد المواسم حرارة، وأن هناك ساقا أخضر منبثق من بين حجارة الطريق المرصوصة كما لو أن الساحة العمرانية برمتها لا تعنيه، كل ما أرمي إليه أن تنظر إلى الألوان في الصورة وتترك حوافها الحادة التي تجرح أصابعك، أن ترى الحقيقة المنصفة من الحياة لا جانبها المظلم فقط، فمع كل موت في مكان ما هناك حياة جديدة بدأت للتو في مكان آخر، سلسلة لا متناهية، سيناريو وجودي لا مفر من خوض غماره وتمثيل مشاهده.

المساهمة في ديمومة الجمال لن يمنحك حياة خالية من القسوة، لكنه سيمنحك قلبا كقلوب العصافير حتى لو سُجنت في قفص مظلم وحُجبت عنك أنوار الدنيا
المساهمة في ديمومة الجمال لن يمنحك حياة خالية من القسوة، لكنه سيمنحك قلبا كقلوب العصافير حتى لو سُجنت في قفص مظلم وحُجبت عنك أنوار الدنيا
 

المهم أن تكون خلّاقا مهما كنت تنزف دما، وحتى لو مات كل الأبطال وتوقفت الموسيقى في الخلفية وتحولت اللحظة إلى كومة رماد.

ألا تتوقف عن إعطاء الفرص للحياة أن تعطيك غدا أجمل، أكثر رقة وألوانا، أن تساعد الجمال في أي مكان على النمو والازدهار عوضا عن قذف الشرر وتقاذف النكات وتبادل الهمس صوب الغرابة وتحطيم المجاديف والأحلام والبذور اليانعة.

المساهمة في ديمومة الجمال لن يمنحك حياة خالية من القسوة، لكنه سيمنحك قلبا كقلوب العصافير حتى لو سُجنت في  قفص مظلم وحُجبت عنك أنوار الدنيا، ستنام ووجهك مملوء بالرضا والسلام لأن أغنياتك تنبع من داخلك ولن تتوقف أبدا، خالدة حتى بعد أن تفنى.

 

تذكر دائما مهما حدث هذه العبارة كراية بيضاء في كل حروبك: "حق الجمال عليك أن تزهو به، ما جئت حلوا هكذا لتعاني".

"It makes all difference whether one sees darkness through the light or brightness through the shadows"

David Lindsay 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.