شعار قسم مدونات

تعريف غير كلاسيكي للشعر

blogs - arabi
الشعر هوَّ تشوهٌ خُلُقيٌّ أَي أَننا نُخلَقُ بِهْ، نَتَكَوَّنُ بِه، وَلا نَستَطيعُ رَفضَّ التواجُدِ مَعه، لا نستطيع فَصلَهُ عَنّا كالروافِض، لا يُمكِنُنا التَبَرّي مِنه، الشِعرُ بِبساطَةٍ عضوٌّ مِنْ أَعضاءِنا لا يختَلِف عنها بِشيء إِلّا أَنَّها موجودةٌ لِخدمَتِه أو هوَّ الموجود لِإِهلاكِها، كائِن من مستوى ثانٍ، في حيّز حقيقي جِدَّاً، إِلّا أَنَّهُ يَجلِسُ على كُرسيٍّ افتراضيْ، مِما يجعَلُ رؤيته ممكنة فقط لِلمعتقدين بوجوده لِأُولائِكَ الذين قاموا يبحثونَّ عنه.
          
محاولة رؤية الشِعر أَشبه بمحاولة ضبط تلّون الهالة المحيطة بنا، مهمة شِبه مستحيلةْ، عِبارة عَنْ أَزِقَّة طويلة لا يوجد في طيّاتِها سوى المزيد مِن الأَزِقَّةْ، وَتِبَعَاً المزيد مِنْ الضياع. الشِعر امرأَة مُغريّة تَظُنُّ أَنَّ الله لَمْ يَخلِق مَثيلَتِها، وَأَنَّ على الرَجُلُ أَن يَفتَحَ لَها الأبوابَ دوماً، وَلكِنها سَهلَةُ المنالِ، عِندما تحاول التَوَدُدَ لِغيرِها…ستأتيك وَسترجوكَ أَن تَصحَبَها للأُوبرا لِأُمسية شِعرية، أَو حَتّى للتنزه بِال (بارك). الشِعر هوَّ أفعوانية ضخمة لو جَرَّبتَها من باب الفُضول مرّة، انهالت عَليكَ بالعُقود وَالالزاماتْ، هيَّ رِحلَةٌ عليكَ بتوديع أقربائِك وَأَحبابك قَبلَ الخروج لَها، فَكِر بِها كرحلة الشتاتِ وَالشتاتْ، لا قوافِلَ تَعودُّ مِنها إِلا لِلجِبايَةِ، هذا دينٌّ بِلا جِزيةْ، هذا سِجنٌّ مُؤَبَد، لا جُدرانَ لِلهروبِ مِنه والقاضي لا يُطيقُكْ.
      
الشِعر رَجُلٌّ مُخَدَّر، حَشّاش، مُدمِن حواسُهُ لا تَتناغَمُ مَع حواسِنا، يرى كلَّ شيء عدانا وَلكننا من خلاله نرى أبطال الروايات، وَنعيش أَحداثاً حَصَلَت قَبْلَ ولادَتِنا، وَنَقَعُ في حُبِّ شوارع ليست على أي خريطة. الشِعر زُمرَة دَم تُؤخَذ من الأَحياء ثُمَّ تُعطى للعموم بَعْدَ مماتِهم، هوَّ الدليل القاطع عَنْ هفوة (نِزار)، هوَّ الدليل الوحيد على وجود المنطِقَةُ الوسطى ما بينَّ الجَنَّةِ وَالنّار، الشِعر يلوي ذِراعيكْ، ثُمَّ يُخبِرُكَ أَنَّ عِلاجَك الوحيد يكمُن في عِناقِكَ لَهْ. الشعر مُضمَر بدواخِلِ العَبَثْ، نواياه لا يُرتَكَن إِليها، هو لَنْ يَكذِبَ عليك، إِلّا أَنَّهُ بذات الوقت لن يعطيكَ إِجابة مريحة.
     
الشِعر لا يبالي بال (كود) الأخلاقي، فالشِعر كائِنْ فضائي لا يتحدث بلغتنا، يستعمِلُ يداه ليُعانِقُنا أو ليركُلُنا، فهذه لُغَتُه
الشِعر لا يبالي بال (كود) الأخلاقي، فالشِعر كائِنْ فضائي لا يتحدث بلغتنا، يستعمِلُ يداه ليُعانِقُنا أو ليركُلُنا، فهذه لُغَتُه
 

الشعر اضطراب جيني نادِر، كفيل بإصابَتِكْ بالاكتِئاب من بَعْد مقابلة واحدة، سيدفَعُكَ حَتماً للانتِحار في فترة من فترات حياتك، سيوصِلُكَ بشكل أو بآخر للشَك بالجدوى من كل هذا، سيشعركَ بأنك قصير القامة، مهما كُنْتَ طويلا. الشعرُ يُحِبُّ اللَعِبْ وأَنتَ دُميتهْ، وعندما تحتاجُ الدُنيا كَبشاً لِلفِداء سيكونُّ إِبراهيميّاً، سيخيبُّ ظَنُّهُ فيك مهما أَرضيته، سيَعِدُكَّ بالجَحيم، ثُمَّ سيقاطِعُكْ، فكما قيل دوما انتِظار الضربة أسوء من تلقيها. الشعر رجل لا يلعب الشطرنج، يجلِسُ في غُرفة مُظلمة، ويشاهِدُّ العتمة، يطلُبُ منك الرسم ولا يعطيك أقلاماً، يحتاجك أن ترسم الحرية، إِلّا أَنَّه لا يذكرك إِلّا بالقيود، الشعر هو أَيضاً كـ (درويش) لا شيء يعجِبُهْ! الشِعرْ حارس بديهي للبلاهة الكونية، الشعر جرّاح قلب، بلا مؤهلات، بلا تدريب، لَم ينهي سنوات دراسته، أَخبروه أن صوتَهُ يصلُحُ للراديو، فقرر أن يُغني في الطُرُقات، قرر أن السماء ستمطِرُ دولارات قرر أن الحَظَّ سيحالِفُه.

    
الشعر حميمية مع جميع النِساء، الشعر زارَ كُلَّ نِساءِكم، وَعِندما كُنتم تتدافعونَّ للخروجِ للعمل، هوَّ كان يسكُنُ أجسادَهُم، كان يرتدي ثيابكم، ويلعبُ أدواركم، وكان دوماً ما يفوقكم برجولة أو باثنتين. الشعر هوَّ مفتعل لكل الثورات التي أكلت رؤوسنا منذ بدايتها. الشعر رجل بليد، الشعرُ نرجسيٌّ، يمرِّغ رأسكَ في التُراب، حتّى يتعلم كيف يبقي رأسَهُ عالياً!
      
الشِعر لا يبالي بال (كود) الأخلاقي، فالشِعر كائِنْ فضائي لا يتحدث بلغتنا، يستعمِلُ يداه ليُعانِقُنا أو ليركُلُنا، فهذه لُغَتُه. طِفلُ بِعُمرِ أهل الأرض، يحتاجُ دعكَاً اجتماعيّا، يحتاجُ أُستاذَاً ليفطَنَّ خِداعنا، إِلّا أَنَّهُ وَالشُكرُ لِلرَب، أَطرَش وَأَعمى وَأَخرَسْ وَمع أننا نحنُّ أُستاذُه، إِلّا أَننا كلما قضينا وقتاً مَعهُ، تبدأ آدميتنا بالتجدد ونبدأ فجأة بالتوقف عَن قَطفِ الزهور، نذهَبُ حيثُ تأخُذُنا الموسيقى، وَمهما كان الدَربُ عويصاً، ومِثلَهُ تماماً نُعانِقُ من نحبهم ونركُلُ من سواهُم.
    
النِفاق الاجتماعي قد يكون صفة تطوريّة، أو قد يكون تضييعا للطاقة، قد يكون هوَّ الشذوذ الوحيد لنظرية الطاقة، حيث أَنَّ الطاقة يمكن ضياعها وفنائها لو وضعت بالمكان الخطأ، لو خرجت من إِطار اهتمامي، فلو شِئتُ تحريكَ شجرة ما همني لو طار العصفور عنها، مشكلتي لم تكن مع العصفور، مشكلتي منذ البداية كانت مع الشجرة. سيد سيئ، وعبد سيء، وكلما حاولت تكوين جمل سأقع في لفظة سيء، عاجلاً أو آجِلاً، لأَنَّهُ مُحتال لم تثبت إِدانته، كَيْف وهو القاضي. الشعر من حزب المعارضة والشاعر دائما ما يُردى بنيران صديقة.
       
أنا لا أعرف نهايتي مع الشِعرْ، لكن كل ذلك لا يهم، فالمهم أنَّ الشعر هوَّ الألم الذي يذكرني أنني حيّ، الشعر هو الفارق بيني وبينَّ جميع الميتين!
أنا لا أعرف نهايتي مع الشِعرْ، لكن كل ذلك لا يهم، فالمهم أنَّ الشعر هوَّ الألم الذي يذكرني أنني حيّ، الشعر هو الفارق بيني وبينَّ جميع الميتين!
 

علاقتي مع الشِعر، كعلاقة الناس مع أديانهم. فكلما جاءت نظرية تتعارض ولو بشكل طفيف مع دينِّ معين، ارتمى رجال الدين لضحدها أو لتقليم أظافِرِها، كي تتناسب مع مفاهيمهم، يشكونَّ فيها على الفور وَيشكون في معتقدهم ولو بَعدَ حين. هكذا علاقتي مع الشعر موقِنٌّ بأنه معتوه، وَأعرف أنه جعل مني معتوها أيضا، إِلّا أنني لا أستطيع ضحده، هو تفسيري الوحيد للوجود، وبدونه لا يوجد معنى. الشعر هو اغتِصاب كامِل لِجَسَدِ الخيانة، لجسدِ الغُشّ والخِداع، ولذلك من فطرتي الإصغاء لما يقوله، والتمطّي على فِراشِ مواجِعِه، التصدّي لأعدائه، ولو كانوا رفاقي، فأنا والشِعر توأم، أولادُ بَطنٍّ واحِد، لا معنى لأحدنا لو سَقَطَ الآخر.

     
الشِعر رجل عسكري فقد حبيبته منذ زمن، فتجدهُ يقصُدُ البار قَبْلَ تجنيدهِ، يكتُبُ لها رسائِلَاً، يسكر حتى يلتقي قعرُ قنينةِ الفودكا مع قعر خيباته، ثم يحشو رسائله بالفوهة، فالسكير يخشى فوهة القنينة أكثر مما يخشى فوهة البندقية، لأنَّ البندقية لا تُذَكِرُه بِمن خانه، البندقية رحيمة جِدَّاً ونبيلة جِدَّاً، وَأمّا الخَمر فيديرُكَ بدوائر مع الكثير من الصور التي مزقتها، وعليك عندها اقتلاع عينيك من محلهما حتّى يتوقف الفيلم. الشعر مثل الكيك قاسٍ من الخارِج، مارشميلو من الداخِلْ، يحبُّ التعلّق، يحبُّ الألم، حتّى لكاد الألم يصبَحُ جزءً منه حتّى لكادَ الألم يكونُّ هوَّ.
       
الشِعر ثنائي الميول الجنسي، يضاجِعُ الجميع، ولا يُحبِّ أحداً، قرأ لِفرويد ولم يُلحِد، قَرأَ الإنجيل ولَم يؤمِن، فالشِعر لا يتخذُ القرارات المصيرية، لا يأخذ صفَّا في هذا لصِراع الأزلي بين وجود الله من عدمه، الشِعر يطلب ال (بوبكورن)، ويستمتع بمصارعة الثِيران، هوَّ يعرِف أَنَّهُ لن يعرِف، وَأَنَّ مُهِمَته تكونُّ في أن يكونَّ هو حقيقياً، أن يكونَّ هو موجوداً، بغضِّ النظر عن باقي عناصر العملية الوجودية، هو يعلم أننا سنموت جميعا في يومٍ ما، ولذلك من الغباء شَنْ حَرب أنت لا تمتلك سِلاحاً فيها ولا مَدفع! وكما قال (جبران خليل جبران) "ليس من الذكاء أن تنتصر في الجدال وإنما من الذكاء ألا تدخل في الجدال أصلاً".
الشِعرْ تلميذ (زيوس)، فليس غريبا على الشعراء عبقُ الآلهة، الشِعرْ لوح ويجي مرعب، يبدأ بالحركة كُلَّما خطرت على بالنا الحبيبة، فيستحضرُّ فينا الحُبَّ بعينهِ ولسانهْ. الشِعرْ ليس حالة لغوية، الشِعرْ موجود بكل بقاع الأرض، لا وزن يربطه، لا قافية تتعدى عليه، الشِعرْ لا يهمه ما قيل فيه، الشِعرْ مِثلُ النَهدْ لا يبالي، لا يبالي! أبدأ وأنا لا أعرف نهايتي مع الشِعرْ، أنا أبدأ ولا أدري ما بدايتي في الشعر، لكن كل ذلك لا يهم، فالمهم أنَّ الشعر هوَّ الألم الذي يذكرني أنني حيّ، الشعر هو الفارق بيني وبينَّ جميع الميتين!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.