وقد دافع الباحثون في هذا المجال عن أطروحاتهم المختلفة بنصوص وردت في كتابات لفلاسفة وعلماء مسلمين متقدمين على غرار البلخي والكندي وابن سينا وابن رشد والرازي والغزالي، مع استحضار اشتهائي لبعض الآيات والأحاديث التي تحتوي على مفردات قريبة من تلك الموجودة في القاموس السيكولوجي، من قبيل (النفس) و(الروح) و(القلب)؛ كما ركّزوا على تلك الجوانب العلاجية التي تَعتمد على مفهوم الرقية والأذكار؛ وفي بعض الأحيان حتى على تلك العلاجات العضوية كالحجامة والفصد.
وليس سرا أن جزءا كبيرا من رواد هذه الحركة التأصيلية قد تقدم لهذه المهمة تحت ضغط دوافع دُغمائية ترى أن أي حل يأتي من خارج المنظومة الإسلامية لن يكون صالحا لعلاج مشكلات النفس (الإسلامية) وقد يوصف جزء من هذا التصور بأنه سليم –إذا عزلناه عن بعده العاطفي- وذلك بالنظر إلى أن معظم نظريات علم النفس قد نشأت كاستجابة لخصوصية المجتمعات التي ظهرت فيها
وباستنفاد حجج من دافعوا عن فكرة (علم النفس الإسلامي) فإن أطروحاتهم التي تقدموا بها لتمثيل هذا العلم توصف بأنها مجرّد ردّات فعل مستعجلة أكثر منها بدائل حقيقية؛ وإذا كان من تماسك فيها فهو كتماسك ألواح الشكولاطة سرعان من يذوب مع أول حمام إبيستيمولوجي تخضع له، حيث إنها ورغم كثرتها لم تستطع تقديم تعريف علمي عابر-للأطروحات (Trans-theses) لهذا التخصص الجديد؛ كما لم تفلح هذه الجهود في بناء أي نموذج أو إطار مفاهيمي يمكن أن يَلمَّ شتات هذا العلم ويُنظم شظاياه؛ فقد صُبِغت معظم الدراسات التي نُشرت حول مفاهيم علم النفس الإسلامي بصبغة فلسفية إيديولوجية غير مؤهلة لمواجهة متطلبات الممارسة النفسية الواقعية؛ بسبب ضبابية وهلامية المصطلحات المستخدمة في هذا المجال.
ولعل أهم مصطلح تم التجني عليه من طرف أصحاب أطروحات علم النفس الإسلامي هو المصطلح الذي يفترض أنه يصف موضوع هذا العلم في حد ذاته؛ ألا وهو (النفس) حيث اعتبروا –بشكل لا مُبَرّر- أن النفس التي ورد ذكرها في النص القرآني هي ذاتها النفس التي تُشكل موضوع علم النفس؛ وشيّدوا على هذا الاعتبار الخاطئ صروح تفسيراتهم السيكولوجية للآيات والنصوص التي تضمنت هذا المصطلح؛ مع أن معظم مفسري القرآن أشاروا إلى أن تعبير النفس في القرآن أكثر تمنّعًا وتجاوزا لمفهومه السلوكي؛ حتى إنه وفي كثير من المواضع يُعبر عن الروح لا على ما دونها؛ كما في قوله تعالى (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي).
هذا وقد امتدت هذه الغُمّة الكبيرة التي اكتنفت ما يسمى بـ(علم النفس الإسلامي) إلى درجة جرى فيها تعميم مفهوم الصحة النفسية بمنظورها الإسلامي على هذا العلم الجديد الذي من المفترض أنه أوسع من أن يُحصر في مفاهيم السلام والصحة النفسية؛ وبهذا تقف هذه المحاولات التأصيلية عاجزة عن الإجابة على عدة أسئلة من قبيل؛ عن أي علم نفسٍ إسلامي نتكلم؛ هل عن العيادي، أم المدرسي، أم الصناعي؟ وباستحضار إشكاليات الطوائف والمذاهب؛ فهل سيكون للشيعة علمهم النفسي الإسلامي الخاص وللسنة علمهم النفسي الخاص؟ وماذا عن هواجس التأويل؟ هل ستنعكس على قواعد هذا العلم الجديد؟
وإلى أن يجد علم النفس الإسلامي إجابات حقيقية عن هذه التساؤلات الإبيستيمولوجية؛ سيظل مجرد حلم جميل لم يجد بعد طريقه إلى حقول المعرفة العلمية؛ وسيظل أي جهد تأصيلي فيه فاشلا ما لم يتصدّ له علماء حَصّلوا الرسوخ في الإسلام وعلم النفس معا، وقدّموا فيه مطالب العقل على نوازع العاطفة؛ ذلك أن جزءا من العاملين في الحقل التأصيلي ينظرون لأمر علم النفس الغربي على أنه أمر كُفْر في مواجهة أمر إسلام، ويتقدمون إلى أقلامهم بدافع العاطفة؛ لا يعنيهم في ذلك منهج علمي واضح ولا ضرورة حقيقية؛ بحيث ينساق بعضهم خلف فرضيات خاطئة فيفسرون بها النصوص الشرعية، أو يرفضون حقيقة علمية ظناً منهم أنها تتعارض مع الشريعة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.