شعار قسم مدونات

من سيرة الصبا.. نسخة كردية من فيلم "سانغام" الهندي

blogs - أطفال كردستان
كان الكرم منفى طيبا كريما، لولا بعده عن دار السينما، دار الأحلام الثانية.
كل منفى موحش، حتى لو كان فردوسا وجنة خلد.
أكرم الآباء أولادهم في اليوم الأول، وتابعوا إكرامهم في اليوم الثاني. كانوا يرسلون لهم وجبة الفطور ووجبة الغداء في صرّة مع أحد البالغين المدربين. وكان الصبية يأكلون من فضول الفطور على العشاء: جبن دسم يعلق دهنه باليد فلا يزول سوى بالصابون، مربى تين، زيتون، بيض…، ثم نسوهم في اليوم الثالث. لعلهم مشغولون بجراحات الكرامة والشرف، فجروح السنان لها التئام وجرح الكرامة ليس يلتام، لسان حالهم: أولاد، سيتدبرون أمر لقمتهم، ثم إنهم صيادون.

ولم يكذّب الصبية خبرا، نزل صلاحي قوب إلى النهر واصطاد سمكة كبيرة تزن ثلاثة كيلو غرامات، في الماء الضحل، بيده، ومن غير شبكة، شقّوا بطنها، وبطحوها على النار بحراشفها، بعد أن ملّحوها ونثروا عليها بعض التوابل، وتغدوا بها طرية اللحم. المثل يقول: الضيف في اليوم الأول من ذهب، وفي اليوم الثاني من فضة، وفي اليوم الثالث من حديد. صرنا حديدا يا كباش الله.
عذرهم قرمجي: الكرم بعيد، هم معذورون، للغائب عذره.
قال الصبي الضّلّيل: لقد خذلونا. وأردف يعذرهم: لعلهم يخشون العيون والعسس.

في اليوم الرابع أمدّوهم بمؤونة، أرسلوا لهم بأوعية من الأطعمة المحفوظة بعناية السكر، أو رعاية الملح، مثل مربى التين، والمخلل، والمكدوس، والسوركي، والجبن، وكيس من خبز "الباقسمات"، وهو خبز قاس، يابس، على هيئة الهلال مضلعا، فيه ثقوب مثل الإسفنج، يرش عليه الماء، فيعود طريا هشا سهل المضغ، هذا الخبز يخبز من مطحون الخبز القديم، وهو طيب. يخبزه أهل الجزيرة للمزارعين الذين يغيبون في البرية شهورا للفلاحة أو الحصاد، هذا يعني أننا لن نراهم إلا كل أسبوع مرة.

وزعت لفيلم
وزعت لفيلم "سانغام" إعلانات كثيرة، فيلم الحب والرومانسية، تحفة السينما الهندية: أبطاله راج كابور وراجندر كومار وفيجنتي مالا
 

لا خوف من الجوع يا أبناء الفروج، فالطيور كثيرة، ويمكن صيد السمك في الماء الضحل. أكثر ما كان يثير لوعة الصبي الضّلّيل هو السينما، فأول ما كان يفعله صباحا بعد شراء الخبز من الفرن هو الذهاب إلى شارع البلدية. هناك، مقابل مقهى طويلو الصيفية، المسورة بنباتات المكنسة، التي تنبت حرُّة، طويلة خضراء، يعلّق عمال السينما لوحة كبيرة، على حائط مشغل أرتين ملصق فيلم العرض اليومي على لوح.
فإذا كان فيلم اليوم فيلم حركة مثل أفلام الكاوبوي العنيفة، أو فيلما بوليسيا، أو هنديا، ازدهى الشارع بالصوِّر الملوَّنة، ووعد مساء اليوم بالسعد، وبالإثارة. أما إذا كان فيلما سوريا، أو فيلما مصريا اجتماعيا، انصرف الصبي ذو القروح إلى ألعاب أخرى، فهذه الأفلام أقل بهجة.

بلغ الفرسان الثلاثة الخبر، السينما ستعرض يوم غد فيلم الموسم، "سانغام" الذي طال انتظاره، وسبقته دعاية قوية، ونشرت له إعلانات في محلات البلدة، خاصة منها محلات الآيس كريم، حتى بات لفيلم "سانغام" طعم الآيس كريم والبوظة. وزعت له إعلانات كثيرة، فيلم الحب والرومانسية، تحفة السينما الهندية: أبطاله راج كابور وراجندر كومار وفيجنتي مالا…

قال الصبي الضّلّيل: سنجد حلّا يا أبناء الفروج.
– هات؟ ما هو؟ الطرق مسدودة، نحن منفيون، ومراقبون، ولعل "ابن المفرزة" وعناصرها يترصدوننا مع العناصر على الطرقات. إنهم إن يظهروا علينا يرجمونا أو يعيدونا في ملتهم ولن نفلح أبدا، اللثام ليس حلا، فنحن في فصل الصيف.
قال ذو القروح: الولد دلو يعشق السينما، سنكلفه بمهمة سينمائية.
ضحكوا: دلو عندما يتحمس تعرق أرنبة أنفه.
– نكلفه بحضور الفيلم، على حسابنا، ثم يعود في اليوم التالي، ويروي لنا قصة الفيلم.
قال قوب: فكرة معقولة، لولا أنني مفلس، نحن في البرية، من أين سنكسب، فنحن نسرق مصروفنا، من الآباء، سرقةً.

تعطل الفيلم أثناء الدوران واضطر عامل الآلة إلى التضحية ببعض أجزاء الشريط، ثم ألصق الجزئين المقطوعين

قال قرمجي: فكرة رديئة، لكن الرمد أحسن من العمى.
قال أشدّهم حبا للسينما الهندية: عندي نصف ليرة.
قال قرمجي: وعندي عشرة قروش، لا يستحق الرمد أكثر من عشرة قروش.
قال قوب: هل سيرضى؟
لم لا يرضى؟ سيحضر فيلما على حسابنا. الولد مسكين، ومنتوف.

– لكن المشكلة نحن منفيون خارج البلدة. والمنفى بعيد، لن يرضى سوى هذا الصبي بهذه الصفقة.
أرسل الأولاد إليه مع أحد الزوار يطلبونه، فحضر بعد ساعات، عرضوا عليه الفكرة، فقبل فورا. اشترطوا عليه أن يحفظ قصة الفيلم بالتفاصيل الدقيقة، وعليه أن يعود لهم بمنِّ القصة وسلوى الأغاني، وبعض قصاصات الفيلم. لا بد من قصاصات.

قال دلو: القصة نعم سأحفظها لكم، لكن لا أضمن حفظ الأغاني، أما قصاصات الفيلم، فسأعمل جهدي حتى أجمع لكم بعضها، فهي تجمع عادة بعض عرض الفيلم.
إذا تعطل الفيلم في أثناء الدوران اضطر عامل الآلة السيد برو إلى التضحية ببعض أجزاء الشريط، ثم يلصق الجزئين المقطوعين. الفضلات الفيلمية يتاجر بها الأولاد.

مدَّ دلو قدميه، وتعرقت أرنبة أنفه، وبدأ يبتزهم: القصاصات تحتاج إلى تمويل خاص، أريد ربع ليرة من أجل القصاصات، ونصف ليرة من أجل السندويش، فأنا دائما أجوع قبل الفيلم عندما تنتشر رائحة الكباب أمام باب السينما، وأريد أن أتابع الفيلم في مقاعد السادة، في اللوج، حتى أحفظ القصة والأغاني بهدوء.
نظر الفرسان الثلاثة إلى بعضهم: ابن القحبة. تعال اركب علينا. هذا بطر. دائما تتأخر عن الفيلم رغبة في توفير عشرة قروش، تنتظر على الباب راجيا "جيرال" موظف الباب، وتبوس يده حتى يدخلك بنصف ليرة. لم ترَ بحياتك فيلما من أوله أيها المتسول.

غضب قوب، وطرده: انقلع من هنا. سنبحث عن غيرك. ابن الإست
فكر الصبي الضّلّيل، فدلو أفضل من يصلح لهذه المهمة، المشكلة هي في بُعد الكرم عن العمران، سيعود الولد راجلا على قدميه، والكرم يبعد ستة فراسخ عن البلدة. والطريق وعر، وفيه مشكلة، عبور بيوت الراشنية الأشداء، وكلبهم الشرس، إنها أمور تستحق التضحية.
اقترح لدلو حلا: نعطيك أجرة الفيلم ستين قرشا كاملة، تشتري بها تذكرة، ونصيد لك عصفورا، تبيعه من أجل السندويشة والقصاصات، وأنت ومهارتك في البيع.
قال دلو: أفكر. أريد طائرا ثمينا.
قال الصبي: لدينا هزار، ما رأيك؟
وركض إلى الغرفة الطينية، وأحضر له قفصا فيه هزار أسير ملتاع، يقفز من جهة إلى جهة باحثا عن ثغر عبلة المتبسم.

هل يمكن أن نضحي لبعضنا بالحبيبة كما فعل غوبال! مستحيل.. غوبال أحمق.. ترهات. واحدنا سيحارب الدنيا من أجل الحبيبة
هل يمكن أن نضحي لبعضنا بالحبيبة كما فعل غوبال! مستحيل.. غوبال أحمق.. ترهات. واحدنا سيحارب الدنيا من أجل الحبيبة
 

ابتهج دلو لرؤية الهزار الأصفر، وطرب، هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها هزارا عن قرب، سأل دلو: لمَ لا يغني؟ قال: اجعلوه ينشد موّالا من مواويل الكروم أيها الفرسان.
قالوا: ليس مطربا من مطربي الأفراح يا ابن الفرج، ولعله لا يغني إلا لرؤية الحبيب. لا أظنه سيغني لوجهك وأرنبة أنفك العرقاء.

ماطل دلو، فالهزار يحتاج إلى بيع، والبيع ليس سهلا، لكنه رضي بالصفقة، بل إنه منّى نفسه بتجارة رابحة، سيرى الفيلم مساء اليوم، ويعود يوم غد عصرا ليروي لهم القصة، مع ما تيسر من الأغاني، وبعض القصاصات. القصاصات، والشذرات الفيلمية يبيعها عادة ابن كشه، وهو ولد يتيم، ينسب إلى أبيه القس الذي أسلم، لكن لقبه القديم بقي يلازمه. متطوع لكنس أرض السينما مقابل الحضور المجاني ودراهم معدودة، وهو يحظى في أثناء التنظيف ببعض الهدايا واللقى، يظفر أحيانا بليرات، أو قروش، قصاصات الفيلم التي يقصها مدير آلة العرض عند تعطل البكرة، يباهي بها ابن كشه أقرانه، ويزهو بها ويفاخر.

وضع الولد دلو القروش في جيبه، وأخذ العصفور الأصفر الأسير بعيدا عن الكروم فازداد الطائر أسرا. غادر. نصحوه ألا يعود من طريق بيوت الراشنية الشرسين.
عُد على ضفة النهر.
مضى سعيدا ليحضر الفيلم في المساء في السينما الصيفية التي ازدحم عليها الفتية باكرا أمام كوة بيع التذاكر.

يتزوج سوندار من رادا، ويسافران إلى سويسرا من أجل شهر العسل، أول مرة نرى قبلة في السينما الهندية، القبلة دائما محجوبة بشجرة غالبا، بخميلة، الهنود قوم أتقياء

أمضى الفرسان الثلاثة يومهم في الصيد وأكل العنب، والتشاتم، إلى أن دارت الشمس دورتها ومضى اليوم مسلوخا، واقترب العصر فبان طيف دلو من بعيد، انتظر الثلاثة فوق سطح دارة الناطور، وصل الولد أخيرا، وقد عرقت أرنبة أنفه. جلس تحت ظل شجرة اللوز التي لمع صمغ كثير في شقوق الجذع وعيون الأغصان.
– هه. كيف الفيلم يا دلو. بشرنا. أحلو هو؟
قال وهو يلهث من التعب: فيلم تحفة. طويل، مدته ساعتان ونصف، وفيه تسع أغانٍ يا كباش الله، فيلم روعة، لكنه حزين.

لخص القصة بعد أن أبرز بعض قصاصات الفيلم، فتصارع عليها الثلاثة، وهم يرفعونها بين أصابعهم باتجاه ضوء الشمس: غوبال (راجندر كومار) وسوندر (راج كابور) والحسناء رادا (فيجنتي مالا) أصدقاء طفولة، يكبرون، غوبال يصير محاميا، سوندار يصبح طيارا. والحسناء رادا… يتوقف دلو قليلا:
هه.
ورادا ما مهنتها؟
رادا حسناء، الجمال مهنة يا كباش الله. الأنثى الجميلة لا تحتاج إلى مهنة وحرفة، مهنتها أنها تُنكح.
يجتمع الشاب الفقير (سوندار)، والفتاة الثرية (رادا) ابنة ضابط الجيش، وغوبال الثري في منزل فخم. ويبدأ (سوندار) بالغناء.
– هيا قلّد لنا الأغنية يا دلو.
يبدأ دلو بالغناء، فيضحكون.

في هذه الأغنية، تقترب (رادا) من (غوبال)، فيبتعد عنها وعندما يخطو (سوندار) نحوها، تبتعد عنه. إنها ممزقة بين حُبيَّن يا كباش الله، كلاهما يحبانها. يتابع دلو سرد القصة، ويمضي الفرسان الثلاثة بخيالهم إلى حبيبتهم الآنسة شذى، معلمة النشاط الطليعي والنكاح الوطني:
سوندار الطيار يكشف لصديقه غوبال حبه لرادا، من غير أن يعرف أن صديقه يحبها أيضا، فيقرر غوبال التضحية بحبّه حتى لا يدمر قلب صديقه الرقيق.

يتزوج سوندار من رادا، ويسافران إلى سويسرا من أجل شهر العسل، أول مرة نرى قبلة في السينما الهندية يا شباب، القبلة دائما محجوبة بشجرة غالبا، بخميلة، الهنود قوم أتقياء. ليسوا مثل إغراء السورية في فيلم "راقصة على الجراح"، فلتسم ِنفسها "راقصة على الأحاليل"، راقصة على الأوتاد، راقصة على الغراميل، راقصة على المدافع. إنها تنتحر في أفلامها بسموم اللذة، هذه امرأة صاحبة ثأر يا كباش الله. الهنود الوثنيون، عبّاد البقر أكثر ورعا منها وتقوى.
راح نصف عمركم يا شباب، تسع أغنيات، وقبلة دافئة في ثلوج سويسرا
– قبلة!!
أقسم دلو: قبلة معفرة بالثلج. فسدت أخلاق الهنود، سنرى فيجنتي مالا يوما مثل إغراء ترقص على الجراح يا كباش.

دلو باع كل طناجر الدار، الطنجرة البافون التي ثمنها عشر ليرات، سحقها وباعها بنصف ليرة ليدخل بها السينما، سرق القمح والنحاس وبيوض الدجاج
دلو باع كل طناجر الدار، الطنجرة البافون التي ثمنها عشر ليرات، سحقها وباعها بنصف ليرة ليدخل بها السينما، سرق القمح والنحاس وبيوض الدجاج
 

يتابع دلو رواية الحكاية: يكتشف الزوج سوندار رسالة قديمة في بريد زوجته من صديقه غوبال، فيعرف بقصة الحب، ويقرر الانتحار، تتدخل الزوجة (رادا) وتحاول منعه، ويحضر ويعترف (غوبال) لصديقه بأنه صاحب الرسالة، لكنه أحب رادا حبا طاهرا عفيفا وكتمه، الرسالة قديمة، أرسلها للحبيبة عندما كان سوندار في الجيش، وظنَّوا أنه قضى قتيلا، وعندما عاد حيا انسحب من قصة الحب، تأكيدا على إخلاصه للصداقة، يقوم غوبال بإطلاق النار على نفسه، ويموت حتى يدع الحبيبة للصديق، وهو يقول: اتحاد الأرواح أهم من الأجساد بالزواج. ثم أغنية النهاية الحزينة الآسرة.

هل يمكن أن نضحي لبعضنا بالحبيبة يا كباش الله كما فعل غوبال!!
– مستحيل.. غوبال أحمق.. ترهات. واحدنا سيحارب الدنيا من أجل الحبيبة.
الفرسان الثلاثة يحبون معلمتهم الآنسة شذى، ليسوا وحدهم، فكل تلاميذ الصف يحبونها، بل لعل كل شباب البلدة يعشقونها، حتى رجالها يحبونها، يحلمون بها، المدير هو الذي يفوز بها، ويختلي بها في الإدارة مع ثالثهما الشيطان، ثم انضم الموجه التربوي نذير الماردوني إلى جبهة اللذة. نحن مستعدون لقتل بعضنا من أجلها. لم تعجبنا رواية دلو للأحداث، وهو لا يجيد تقليد الأغاني، ساعتان ونصف لخصها بسطرين.
– الأغاني صعبة يا أبناء الفروج.

دلو باع كل طناجر الدار، الطنجرة البافون التي ثمنها عشر ليرات، سحقها وباعها بنصف ليرة ليدخل بها السينما، سرق القمح والنحاس وبيوض الدجاج… لم تعجبهم طريقته في سرد الأحداث، هناك أمور مفقودة في القصة، غير المعقولة، اتلفتَ القصة، وظلمتها، أضعت التفاصيل، أين القبلة، صف القبلة… بئس الراوي أنت، لا بد من إعادة البضائع الفاسدة، هذه بضاعة مزجاة.

– اعترف يا دلو، بكم بعت الهزار؟
بلع دلو ريقه: بثلاث ليرات.
– اصدقنا القول.
– أقسم.. بأربع ليرات فقط.
سحله الفرسان الثلاثة إلى بحيرة عنتر، ترجَّاهم: التوبة يا شباب.. ثيابي.
قالوا له: لا تخف، ستجف بربع ساعة في الشمس أيها الغشّاش.

أمسكوا به وهزّوه، وراحوا يغنون له بالهندية:
– تري منكي جمنا تا… أو ماهي بوبا… مهبوبة.
ثم قذفوه في آهات النهر الأخيرة الضحلة.
صعد الثلاثة على الأشجار وغنّوا أغنية لم يسمعوها سوى من فم دلو:
تيري منكي جمنا تا.
بول ترادا بول ترادا بوكا ناهي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.