شعار قسم مدونات

الغرب في مخيالنا

blogs - الغرب 2
احتل "الغرب" حيزا لا بأس به في اهتمامات المسلمين بمختلف انتماءاتهم، فمهما اختلفت الرؤى والتصورات، فإنها تكاد تشترك في مبدأ واحد يضع تقابلا تاريخيا بين العالم الإسلامي أو الحضارة الإسلامية والعالم الغربي أو الحضارة الغربية، لذلك فالغرب يحتكر مساحة مهمة في نسق كل توجه فكري.

بل كل الحركات الاجتماعية التي هبت ريحها على مجتمعاتنا خلال السنوات التي خلت، بشرت برؤية مغايرة لمن سبقها في أفق كسب التأييد

والالتفاف حول فكرتها الإصلاحية، وكما أكد المؤرخ المغربي عبد الله العروي فيستحيل وصف مسيرة العرب نحو تعريف ذاتهم دون وصف تاريخهم للتعرف على الغرب وتعريفهم له.(1) لذلك لا غرابة أن تكون مسألة الذات من بين المسائل التي انشغل بها العرب منذ ما يناهز 100سنة. وكان السؤال المؤطر لمختلف الإجابات هو: من نحن؟ ومن الآخر؟ وما طبيعة علاقتنا به؟

وعودا على ما سبق، فقد تعددت الإجابات والتعريفات حول السؤالين السابقين؛ بين أول منظر لـ"التناقض" بين الغرب والشرق، وثاني مبشر بـ"التقارب" بين الأخوين، وثالث داع لنظرية "الاحتواء والتجاوز" ضاربا المثل بدول آسيوية استفادت من الغرب ولكن لم تختر الذوبان في ذاته والتنكر لأصالتها وهويتها المحلية. إذن، ليس القصد جرد ادعاءات وحجج كل تيار على حدة، إنما المقصد هو تفكيك إحدى الأفكار التي شاعت بين عموم المسلمين، ترى بأن الغرب حضارة مادية بينما الشرق (العالم الإسلامي) متدين، وأن الطابع الطاغي في الفكر الغربي هو النزعة المادية وافتقاره إلى منظومة أخلاقية مثل التي تستند إليها الحضارة الإسلامية.

العقل الحداثي قدم لنا صورة عقلانية للعالم، تدمج الإنسان في الطبيعة وتعتبره ابن الطبيعة ومقيدا بقوانينها، ونزع الطابع السحري للعالم بالتعبير الفيبري
العقل الحداثي قدم لنا صورة عقلانية للعالم، تدمج الإنسان في الطبيعة وتعتبره ابن الطبيعة ومقيدا بقوانينها، ونزع الطابع السحري للعالم بالتعبير الفيبري
 

بل ويذهب رهط كبير من المفكرين إلى اعتبار أن الغرب "مفلس" أخلاقيا وأن اللحظة الحالية تقتضي قيادة الرجل المسلم ذي منظومة أخلاقية شاملة، للانقاد النزعة الروحية الخافتة مقابل تحطيم النزعة المادية المتسلطة. بل ويعتبر أن لا منفد للمأزق الأخلاقي الذي تعيشه الحداثة الغربية إلا الإسلام، وبشر بزوال قيادة الرجل الغربي البشرية.

ولعل الحركة الإسلامية من أكبر الحركات الإصلاحية التي تأثرت بفكرة مادية الحضارة الغربية وإفلاسها القيمي، وتفوق الحضارة الإسلامية الأخلاقي عليها. ولا دل على ذلك كتابات الرواد الأوائل للحركة الإسلامية، حيث يصف سيد قطب أن الحضارة الغربية حضارة خالية من الروح، وخاوية من المثل، مجردة من الأحلام ولا ترفع عن محيط الحيوان.

وينظر إلى الإسلام باعتباره التوازن بين الروحانية والواقعية المادية. (2) وهذا التصور المجانب للصواب والدقة، نتج عنه أطروحات أخرى ترى أن الحضارة الغربية وما أفرزته في تاريخها لا يعدو أن يكون قيما مادية عدوانية وثقافة تأجج الصراع والقوة وتغلب منطق "السيطرة" على مبدأ "الاستخلاف"؛ وأن الحداثة في بداياتها وضعت ضمن مبادئها مبدأ (علمنة المقدس) الذي يعني حذف الإحالات الدينية عن قيم التراحم الاجتماعي، وأضافت التحرر من الشرعية الدينية في تأويل العالم والتنظير للسياسة وأسكنت القيم في تربة النسبية والتغير المفتوح… وتبعا لهذا تبدت ملامح حديثة في تصور العالم والإنسان، إذ ليس في مشروع الحداثة العقلانية الكلام عن مشروع إلهي يحكم المملكة الإنسانية -والنتيجة في نظره- وهنا تم إقصاء كل نزعة غائية عن الوجود والإنسان (3).

العقل النظري والعقل العملي، وهما عقلان مختلفان في مواضيع بحثهما وميدان اشتغالهما، بل متباينان حد النقيض في الأسئلة التي يطرحها كل واحد منهما

وعليه، يتضح أن الأفكار الرائجة عن الغرب، لا تعدو أن تكون إجابة فعلية عن سؤال تحديد الآنا والغير الذي يؤطر كل محاولة لتفسير الواقع والنظر للمستقبل لاجتراح إجابة فاعلة لسؤال النهضة. لكن هذه الإجابة تخفي الكثير من المغالطات وسوء فهم للأنا (نحن) والغير (الغرب)، فليس من الصواب الادعاء بأن الغرب مادي ومفلس أخلاقيا، والشرق متدين ومتخلق.

وصحيح أن العقل الحداثي قدم لنا صورة عقلانية للعالم، تدمج الإنسان في الطبيعة وتعتبره ابن الطبيعة ومقيدا بقوانينها، ونزع الطابع السحري للعالم بالتعبير الفيبري، ومحاولة العقل الغربي من خلال العلم التجريبي والعلوم الإنسانية والاجتماعية تفسير الظواهر الطبيعية والإنسانية بشكل يركز فقط على بنية مفاهيمية طبيعية عدوانية تقصي الملفوظات المعيارية من قبيل: العنف، السيطرة، القوة، العقل، التعاقد والصراع… في مقابل قيم التراحم، الاستخلاف، اللين، التآزر.

لا أنكر هذا النوع من التحليل بل هو عين الواقع. بيد أن هنا مربط الفرس، حيث إن الفخ النظري الذي وقع فيه أنصار هذه الأطروحة التي نحن بصدد تحليلها، هو عدم قدرتهم على التمييز بين نوعين من العقل ارتبطا بالتفكير الفلسفي، وهما: العقل النظري والعقل العملي، وهما عقلان مختلفان في مواضيع بحثهما وميدان اشتغالهما، بل متباينان حد النقيض في الأسئلة التي يطرحها كل واحد منهما، وبالتالي تختلف الإجابات المقدمة. اذن هنا يمكننا بسط الإشكال كالتالي: ما هي خصائص كلا العقلين؟ ما أبرز أوجه التباين بينهما؟ هل الاسلام امتداد للعقل النظري ام العملي؟ ومن أي عقل يستمد الفكر الغربي الحداثي نزعته الطبيعية المادية؟
_______________________________

*المصادر:
(1) الايديولوجية العربية المعاصرة: عبد الله العروي.
(2) نحو مجتمع إسلامي: سيد قطب، فصل "المستقبل للإسلام".
(3) قوة القداسة: تصدع الدنيوة واستعادة الديني لدوره: عبد الرزاق بلعقروز.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.