شعار قسم مدونات

رقص الجمهور في الحفل.. فصرّح الوزير "شعبنا بخير"

blogs - تونس
كنتُ هناك على مدارج المسرح الروماني بقرطاج في بلد عليسة الفينيقية -أرددُ بصوت خافت كلمات ليست كالكلمات- وكان يصدح بصوت شجي وقوي يعلو جدران المسرح يُخيل إليك أنه قادم من قمم الجبال من هناك من بين البحار والمحيطات، يعلو أشجارا وأغصانا، يصف أوجاعنا ويحكي آلامنا، يعبث في أوطاننا بألحان موجعة ويبعثر الكراسي الجاثمة بكلمات تنساب بين ألحانه وعوده وصوته فتعشق المساء والفنان وقرطاج.

فنان قدير يغني وأغني معه "أنا حلمي بس كلمة أن يظل عندي وطن.. لا حروب ولا خراب لا مصايب لا محن، خذو المناصب والمكاسب لكن خلولي الوطن، يا وطن وأنت حبيبي أنت عزي وتاج رأسي، أنت يا فخر المواطن والمناظل والسياسي أنت أجمل أنت أغلى أنت أعظم من الكراسي"، صفق الجميع وكنت من بينهم، وقف الحضور وانحنى الفنان لصدق اللحظة وعمق الرسالة، وقف الوزير أيضا وقد تنازل عن كرسيه الفخم في المقعد الأول من المسرح وصفق!

رأيته يتفاعل يبتسم ويتأثر، خلته يفقه فن الحياة ولغة الشباب ولحن الأحلام، فعندما يقف الوزير للفنان ذلك عمقٌ لم نعهده وتلك رسالةٌ لم نشهدها، بل تلك لحظاتٌ تحكي نضجا ووعيا وثقافة وتاريخا. لكن يختلف الواقع عما نتخيل حيث يحظى الوزير بمنصب وكرسي ويحظى الفنان بتجاربَ مختلفة يحارب من خلالها ليصف الواقع وينقد المجتمع ساخرا متهكما آملا في تغيير مفاجئ يخطط له الوزير الذي تابع العرض!

ألم نقرأ أن الرقص ليس مجرد تحريك لأعضاء الجسد في اتجاهات معينة، بل هو لغة للأحاسيس والعواطف والمشاعر وللأفكار أيضاً
ألم نقرأ أن الرقص ليس مجرد تحريك لأعضاء الجسد في اتجاهات معينة، بل هو لغة للأحاسيس والعواطف والمشاعر وللأفكار أيضاً
 

عاد الوزير إلى مكتبه وجلس على كرسيه، ترشف قهوة الصباح، تصفح عناوين الصحف، اتصل به مسؤولٌ "سامي" ووزيرٌ صديق، أجاب وتحدث بطلاقة لم نعهدها في خطاب "الوزير"! تحدث في مراوحة فنية جميلة عن حفل الفنان ونجاحه الجماهيري، تحدث عن الجمهور الذي رقص وانسجم وتفاعل. وعلى شاشة التلفزيون خاطب الوزيرُ البلاد والعباد وقال "الحمدلله.. شعبنا بخير"، ففي ذهنه صورٌ قد لا تتكرر إلا في بلد العجائب والفرح الدائم!

رجل يرقص وفتاة تتزين وتتمايل بلا هوادة وعجوز محجبة تهُزُ برأسها على مدارج المسرح، وأحيانا ترقص هي الأخرى صامتةً ينحني جلبابُها حتى مع الألحان الحزينة، قال الوزير: "كان العرض في غاية الروعة"، حدثنا عن المكان والزمان وعن جودة الآداء وفصاحة الفنان، بدا الوزير مبتهجا سعيدا فهو يؤمن بجدوى التفاؤل "تفاءلوا خيرا تجدوه"، ألم تُروَى للوزير رقصةُ الديك المذبوح، ظنه الناس راقصا من الفرح بينما هو يتلوى من الألم ورهبةِ الوقوف على حافة النهاية!

ألم نقرأ أن الرقص ليس مجرد تحريك لأعضاء الجسد في اتجاهات معينة، بل هو لغة للأحاسيس والعواطف والمشاعر وللأفكار أيضاً، فهلا حدثتم الوزير عن الراقصة والمصممة الأمريكية الرائدة "روث سانت دينس"، حين دمجت الفكر بالرقص، رقصت فأبدعت وفكرت فأقنعت بحديثها عن الرقص وقد اعتبرته" أداة الإنسان كي يصبح جزءاً من إيقاع الكون، ولذلك اكتشفه الإنسان قبل أن يعرف كيف يتكلم ويخاطب الآخرين". بدت لي الكلمات أعمق من مجرد رقصة!

لماذا صفق الوزير في العرض ولم يرقص؟ سؤال حيرني، بحثت في أعماقه وتجليت معانيه بعيدا عن اللحظة. علّه بصيص الأمل حدثه بأن يتجاهل عناوين الجريدة التي يتركها جنب السيجارة كل يوم، ربما يرفض جسده الرقص كما يلفظ الأزرق أجسادهم؟ واحدة بواحدة أظنها، فمن الحب ما قتل! عندما يحترق القلب شوقا كما تحترق الكتابات والأحرف والكلمات، كما تحترق سيجارة الوزير فوق عناوين الصحف.

حتى الرضيع والجنين في بطن أمه يحلمان بالأزرق! ويركبان الموج الغاضب إلى وجهة الغربة والغريب، ومالغريب في القصة؟ وجع الأيام أم وجع الأم؟

تحدث الوزير عن الفن والحياة والرقص ولم يتحدث عن الجريدة! صفحاتُها الأولى حزينة وعناوينُها منهكة كاسفة كامدة وكئيبة، في الصفحة الأخيرة منها "قصة نجاح" يليها "حظك اليوم"، فهكذا هي الحياة مأساة وبصيص أمل! نعم لأن الوزير لم يرقص لكنه صفق! كذلك يفعل مع الجريدة! يقرأ العناوين كل يوم، ثم ينظر إلى علبة السيجارة يسحب واحدة يحرقها ولا يعلم أن الشباب حينها "يحرق" والحرقة كلمة معبرة جدا في قاموس الهجرة في أوطاننا العربية وهي الحل لمن لا وطن له.

أما الوزير فلا يزال تائها في جمال عليسة والمدارج الفينيقية، أصلها بربري ربما أيضا عثماني تجول في خاطره خواطرُ عن الفن وعن جمال الحفل، يريد الوزير حفلا آخر وسهرة أخرى ليحرق سيجارة أخرى في مكتبه صبيحة الغد وهو يروي عمق اللحظة وصدق الرسالة! ظل الوزير يحلم بحفل كبير وفنان عظيم وجمهور غفير. فأحلام الوزير أحلام مجنونة لا سقف يحدوها، أحلام لا تموت تماما كما هي أحلام الشباب. فالوزير شاب مثله مثل بقية شباب "الوطن" الذي اختار الهوى الأزرق وللناس فيما يعشقون مذاهبُ.

وفي الحب البحري كتب نزار قباني قصيدة جميلة أعجبت الشباب حتما فقد خاطب سفينتهم الصغيرة، كما خُيل إليهم، خاطبها بالقول "ادخلي بحري كسيفٍ من النحاس المصقول، ولا تقرئي نشرات الطقس، ونبوءات مصلحة الأرصاد الجويه، فهي لا تعرف شيئاً عن مزاج سمك القرش، ولا تعرف شيئاً عن مزاجي".
 
نزار قباني خاطب حبيبته بقصيدة شعر، وذاك الوسيم خاطب حلما جميلا مجنونا كطيف نسيم يلاحقه ولا يلحق به، قال "هل تهرُبين معي من الزَمَن اليابسِ إلى زَمَن الماءْ؟ فنحنُ منذُ ثلاثِ سنين لم ندْخُلْ في احتمالات اللون الأزرقْ "، حتى الرضيع والجنين في بطن أمه يحلمان بالأزرق! ويركبان الموج الغاضب إلى وجهة الغربة والغريب، ومالغريب في القصة؟ وجع الأيام أم وجع الأم؟ وجع الجسد أم وجع الوطن؟ أم تراه وجع الوزير الذي لم يرقص في الحفل؟

ذاك جسدٌ أنهكه المرض وسنواتُ العمر التي حفرت الأخاديد على الوجنتين، مع صوتٍ خشنٍ فيه بحةٌ توحي بحزنٍ قديم جديد من فقر المال إلى فقر أثقل وأضخم، أضحى الجسد عليلا وأصبحت حيدة تقاسم الوطن أحزانه فهي تدرك جيدا معنى الوطن، لم تحضر حفل الفنان القدير، لم تصفق له ولم ترقص على ألحان الوطن الحزينة كما رقص الجميع بينما، لا يزال الوزير منهكا متعبا مثل تلك الأم فقد أعيته بدوره أوجاعُ الوطن، وهو لم يرقص قط بل اكتفى بالتصفيق عندما رقص الجمهور ثم صرح أن الشعب بخير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.