شعار قسم مدونات

كوردستان الثامنة.. دولة أجهضتها إيران

Blogs-kurds
ثمان محاولات خلال أقل من قرن بدأت منذ عام 1922 وانتهت عام 2017 سعى خلالها الكورد للاستقلال وإعلان دولتهم الكبرى، ولكن الفشل كان دوما نصيب تلك المساعي لأخطاء عدة أهمها سوء اختيار الوقت والحلفاء الضامنين على حد سواء. لم يدرك الكورد في العراق تحديدا فصول اللعبة وظنوا أن الترويج للمظلومية سيمنحهم حظا أوفر لنيل تعاطف الرأي العام مع قضيتهم.
          
ولكنهم غفلوا نقطة مهمة وهي أن معظم أنظمة دول العالم لديها فوبيا الأقلمة وخشية إثارة نزعات الانفصال داخل بلدانهم، وبالتالي فمن المستبعد جدا أن تمنح بعض الحكومات الواقعة ضمن محور صناعة القرار الأممي أي موقف بالإيجاب حتى لو كان إيحاءا بالرضا والقبول في انفصال إقليم كردستان عن العراق، فحمى الاستفتاء وصلت إلى إيطاليا بعد كتالونيا ليعلن إقليما "لومبارديا والبندقية" وهما من أغنى المناطق في إيطاليا تنظيمهما استفتاء للحصول على الحكم الذاتي ولا نعلم من سيكون التالي.
              
من سوء حظ الكورد الطامحين للاستقلال أن يكون مركز وجودهم بين ثلاث دول متجاورات لهن عمق تاريخي وحضاري وموروث بنكهة العنفوان الإمبراطوري الذي حال دون إيجاد إي أجواء انفصالية لدى الأقليات فيهن، فكيف وإن المنطقة بأكملها تغلي اليوم بالأحداث في ظل الحديث عن شرق أوسطي جديد والكل يتدافع نحو تحصين نفسه وإن كان الثمن رسم حدود بالدم كما ورد ذلك في كتاب "لا تترك القتال أبداً" للكولونيل الأمريكي "رالف بيترز" عام 2006 والذي تناول ما أسماه الخلل الكبير في الحدود الاعتباطية الحالية التي وضعها الأوروبيون، حيث تقدّم "بيترز" منذ ذلك الوقت بخريطة أمريكية مبتكرة عدها بديلة لـ"سايكس بيكو" البريطانية الفرنسية قبل أكثر من 100 عام والذي تطرق فيها أيضا حول تشكيل دولة كردية في شمال العراق.
            

تمكنت طهران من ترسيخ وجودها في صناعة القرار داخل بغداد، فضلا عن إنها أنشأت لنفسها موقعا أماميا استراتيجيا في العراق يمكِّنها من الاستعداد بصورة أفضل للمواجهة المحتملة مع واشنطن

المواقف الارتجالية والعفوية والاندفاع بحكم العاطفة القومية لدى الأحزاب الكردية كانت أبرز العوامل التي أدت لانتحار سريع لمشاريع الانفصال على مدى قرن مضى، وأخر من أطلق النار على رأسه هو رئيس إقليم كردستان العراق "مسعود البارزاني" الذي نجح إلى حد ما في بناء دولته الكردية داخليا فقط عبر التمهيد تثقيفيا طوال 22 عاما مستغلا حدود الحماية التي وفرتها له الولايات المتحدة الأميركية بالاشتراك مع حلفائها وبموافقة مجلس الأمن من خلال فرض منطقة حظر للطيران شمال خط العرض 36فوق الأراضي العراقية، فتوجه الإعلام الكردي منذ عام 1991 لشيطنة حكومات بغداد المركزية وهو ما أسهم في تأسيس أجيال مشبعة بحلم الاستقلال والذي تبلور جليا عبر تصويت أكثر من 97 بالمائة من الأكراد "بنعم" للانفصال بعد إجراء الاستفتاء بتاريخ الـ 25 من أيلول للعام الجاري، أما خارجيا فقد توهم برزاني بان الظروف الدولية والإقليمية مهيأة لاحتضانه ودعم قراره، بينما غفل عن دور أهم لاعبين في المنطقة وهما إيران وتركيا.
         
ولربما يظن الناظر للوهلة الأولى بأن أنقرة صاحبة التصريحات النارية هي أكثر من ساهم في وأد دولة الأكراد بمهدها، لكن الوقائع تقول أن طهران التي تعمل بصمت أكثر لعبت فعليا داخل الميدان وأجهضت الحلم عبر حرسها الثوري وقائدة الجنرال قاسم سليماني الذي كان حاضرا شخصيا للإشراف على معركة إعادة الأكراد لحدود عام 2003 كما أكد ذلك مستشار الأمن السابق في وكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية "مايكل بريجنت" الذي قال على صفحته الخاصة في موقع تويتر بأن "سليماني أشرف على عمليات الميليشيات في كركوك بعد يومين من خطاب ترامب القوي ضد إيران".
      

إن مقامرة البارزاني في إصراره على إجراء الاستفتاء ارتدت عليه بحسب صحيفة
إن مقامرة البارزاني في إصراره على إجراء الاستفتاء ارتدت عليه بحسب صحيفة "فايننشال تايمز" فيما وصف مقال بصحيفة "واشنطن بوست" انتصار بغداد في كركوك بـ"انتصار الشر"
     

وبالفعل فقد وصلت قوات الحكومة المركزية في بغداد إلى أبعد منطقة كانت خاضعة للسيطرة الكردية بعد عام 2003 استولت البيشمركة عليها خلال فترة الحاكم المدني الأميركي "بول بريمر" بدءاً من خانقين مروراً بقضاء طوز خورماتو في صلاح الدين وصولاً إلى مخمور والكوير وسد الموصل وسنجار وانتهاءً بمثلث فيش خابور التركي، العراقي، السوري، وهي سيطرة تكرّس قوساً كاملاً على الخريطة العراقية الداخلية بدءاً من الحدود الشرقية للعراق مع إيران وانتهاءً بالحدود الشمالية مع تركيا.

    
بذلك ضمنت طهران اكتمال بدرها الشيعي وإنشاء ممرها إلى البحر المتوسط الذي هدده الحلم الكوري كما صرح بذلك وليس بزلة لسان ولا عن الهوى ينطق زعيم حزب الدعوة الحاكم في العراق "نوري المالكي" حين أكد أن إجراء الاستفتاء وقيام دولة الكورد سيؤثر على استقرار إيران وسيضر بمحور التشيع كله ، وهو نفسه من يتبنى اليوم مقترحا بات يروج له لضمان عدم عودة طرح فكرة الانفصال مستقبلا من خلال إنشاء إقليميين كرديين بحكم ذاتي بدلا من واحد كما كان عليه الحال منذ عام 1970، الأول يضم السليمانية وحلبجة ويديره حزب الاتحاد الكردستاني المقرب والمدعوم إيرانيا والآخر يضم أربيل ودهوك ويديره الحزب الديمقراطي الذي يتزعمه مسعود البارزاني.
           
في المحصلة النهائية، فإن مقامرة البارزاني في إصراره على إجراء الاستفتاء ارتدت عليه بحسب صحيفة "فايننشال تايمز" فيما وصف مقال بصحيفة "واشنطن بوست" انتصار بغداد في كركوك بـ"انتصار الشر" في إشارة لهيمنة إيران على الثروات النفطية الكبيرة بشمال العراق، أما البروفيسور في كرسي الشرق المعاصر بكلية التاريخ وعلم السياسة والحقوق في الجامعة الروسية الحكومية للعلوم الإنسانية "غريغوري كوساتش" علق بدوره على الموضوع بالقول "أنه ومن دون المشاركة الإيرانية الحثيثة، كان يستحيل على القوات العراقية فرض سيطرتها السريعة على كركوك" مؤكدا أن طهران تمكنت في عملية كركوك من اصطياد عدة عصافير بحجر واحد، حيث لعبت على التناقضات الكردية وأضعفت موقف قيادة الإقليم المتحالفة مع واشنطن، كما تمكنت طهران من ترسيخ وجودها في صناعة القرار داخل بغداد، فضلا عن إنها أنشأت لنفسها موقعا أماميا استراتيجيا في العراق يمكِّنها من الاستعداد بصورة أفضل للمواجهة المحتملة مع واشنطن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.