شعار قسم مدونات

إنسانية لكن.. حسب الطلب

Blogs-poverty

إنْ كان ما يكتبُه الإنسانُ أو ينطقُ به هو بمثابةِ عقله ووجدانه الكامنين، وأنَّ الكتابةَ هي روحُ الإنسانِ وحقيقتُه مجسدةً ظاهرةً في الورقِ أو في الكلامِ المنطوقِ، كما قالَ الدكتور زكي نجيب، فأيّ كرهٍ ذلكَ الذي تحويه الأنفسُ! وأّيّ انتقائيةٍ كامنةٍ في أعماقنا حتى تظهرْ كتاباتُنا بهذا الشكل اللاحيادي في تعاملها مع قضايا الإنسان! 

       

ففي حينِ أننا نتوسطُ مكاناً، بينَ ميانمار التي تتعرضُ الأقليةُ المسلمةُ فيها للتهجيرِ والقتلِ بأبشعِ الطرقٍ على يد الجيشِ والمجاميع المتطرفة من البوذيين، وبين الولايات المتحدة الأمريكية وما يحدثُ فيها من كوارثَ طبيعيةٍ دمرتْ البلادَ وشردتْ العباد. لمْ يكنْ تعاطُفنا تجاه الكارثتين وسطا، ولمْ تكنْ ضمايُرنا منصفةً في الحالتين على سواء، بل أنها جاءتْ لتذكّرنا بانتقائيتنا تجاه الإنسان المختلف عنّا عقيدةً وتوجها. وجاء التعاطفُ والأسى -وليته لم يأت- بخصوص كلَ قضيةٍ، حتى ليستطيعَ المتابعُ لمواقعِ التواصلِ أنْ يميّزُ توجه كل فردٍ من طريقةِ تناوله للقضية.

        

فبخصوصِ قضيةُ الروهينغا، سكتَ الكثيرُ ممّن تفيضُ كتابتهم بعباراتِ الأسى والحزنِ عندَ مقتلِ فردِ أو اثنين في التفجيراتِ التي تحدثُ في الغربِ بوجه الخصوص، أو حينَ يكونُ الإسلامُ هو المتهم. كأنَ إنسانيتهم التي صدعوا العالمَ بها، لا تظهرُ إلا إنْ كانَ القتيلُ ليس مسلماً، وأيضا هناك من يكتبُ حسب ما يمليه عليه وليّ نعمته، حيثُ وصلَ به الانحطاطُ أنْ يتهمَ الضحيةَ ويبرئ الجلاد، وهؤلاء هم كتابُ البلاطِ السلطانيّ، فكتاباتهم ومواقفهم صورةٌ ثانيةٌ لتوجههم السياسي وعبوديتهم للحاكم، لدرجةِ أنهم نسوا معنى حرية.

   

ألّا تستطيعَ التعاطفَ مع المظلومين لأيّ سببٍ كان، ولا تستطيعَ انتقادَ الظلمِ والاستبدادٍ الواقعُ على غيركَ من البشر، فهذا نقصٌ في وجدانكَ وأنتَ في هذه الحالةُ جبانٌ ضعيف
ألّا تستطيعَ التعاطفَ مع المظلومين لأيّ سببٍ كان، ولا تستطيعَ انتقادَ الظلمِ والاستبدادٍ الواقعُ على غيركَ من البشر، فهذا نقصٌ في وجدانكَ وأنتَ في هذه الحالةُ جبانٌ ضعيف
        

أمّا إعصارُ إرما فقدْ بينَ لنا كالعادةِ ثقافةَ الكره والجهلِ التي يتبناها بعضُ علماء الدينِ وما نتجَ عنها من تشويهٍ لفطرةٍ الإنسانِ تجاه أخيه الإنسان. وعلى سبيلِ المثالِ لا الحصر، غردَ أحدُ علماء الدين المعروفين، بالدعاء على الكفار -كما وصفهم- داعيا الله أنْ يدمرَ الإعصارُ بنيانهم ويكثرَ قتلاهم، وفي الخاتمة دعا الله أنْ يحفظَ المبتعثين والمسلمين في تلك الدولة من الإعصار. أيعقلُ أنْ لا يعلمُ هذا الشيخُ أنَ حكومته ووليّ أمره أولُ من قدمَ يدُ المساعدةِ لمن وصفهم بالكفر؟ ألم يكنْ الأجدرُ بهذا الشيخِ أنْ يطلعَ في أسبابِ حدوثُ الأعاصيرِ قبل أنْ يقولَ إنها انتقام من الله؟ أليس الأولى منه أنْ يدعوا بالهدايةِ لوليّ أمره قبلُ دعائه على المدنيين بالهلاك؟ تناقضٌ عجيبٌ لا يجدُ القارئ أمامه إلا السكوت.

      

وإنْ كان يرى نيلسون مانديلا أنَّ الحرية لا يمكن أنْ تتجزأ، فكذلك الإنسانية لا تظهر حينا وتختفي حينا آخر، لا توجد إنسانية حسب ما يقتضيه الحال، فهي إما موجودة وإما لا، فالواجب الأخلاقي يقتضي من الفرد أن ينصف أخاه، حتى لو لم يطلب منه ذلك، فالحياد خيانة لضمير الكاتب وقلمه، فيما ليس فيه حياد. إن هذا الصمتُ المخزي من طرفِ دعاةُ التحررِ تجاه القضايا الإسلامية من جهة، وشماتةُ بعض رجالِ الدين لما يتعرض له غيرُ المسلمين من جهة أخرى، إن دلَّ على شيء، دلّ على أننا شعبٌ انتقائي في إنسانيته، وأنَّ الخللَ لا يكمنُ في توجه الفردِ ومعتقداته، بقدرِ ما يكمنُ بروحِ الفرد وطريقةِ تربيته التي نشأ عليها.

       

إنْ الظلمَ والقتلَ والكوارثَ الطبيعية، التي تحلُ على مجموعةٍ من البشرِ في أيّ مجتمع، على اختلافِ عقيدةِ أفراد هذا المجتمع تفرضُ على كلَ فردٍ بحكمٍ كونه إنساناً اولاً، وذو عقيدةّ سليمةٍ ثانيا، أنْ ينظرَ إلى هذه القضيةَ من بعدٍ إنسانيّ لا تطغى عليه مشاعرُ الكراهيةِ والعنصرية

إن المعركة الحقيقة التي يواجهها المجتمع العربي ككل والفرد على وجه الخصوص، هي في كيفية المحافظة على إنسانيته، ففي حين صارت مظاهر التوحش والقسوة لا تثير غضب الناس، بل لا تدفعهم إلى الوقوف والنظر لو على سبيل الفضول، حاول أن تبحث عمّا تستطيع أن تكون به إنسانا، حتى ولو كان حسرة تخفيها خلف أضلاعك على طفل يبكي من الجوع، أو كلمة مواساة لمن فقد كل احبائه، وقفت على طرف اللسان ولم تنطق بها، حاول بأي شيء ولو إغماض عينيك عن منظر يداس به على كرامة الإنسان، حاول قدر ما تستطيع، فما أنت إلا صورة لكل ذاك العذاب.

        

أنْ لا تستطيعَ التعاطفَ مع المظلومين لأيّ سببٍ كان، وأنْ لا تستطيعَ انتقادَ الظلمِ والاستبدادٍ الواقعُ على غيركَ من البشر، فهذا نقصٌ في وجدانكَ وأنتَ في هذه الحالةُ جبانٌ ضعيف. أما أنْ تنتقدَ منْ يتعاطفُ ويقفُ وقفةَ استنكارٍ في وجه الظلم، فأنتَ في هذه الحالةُ جبانٌ منافق. إنْ الإنسانَ في حزنه وأساه على ما يصيبُ غيرهُ من البشرِ من مصائبَ وكوارثَ، هو تجسيدٌ لمعنى الضميرِ الحي، وشعورُ الإنسانِ بحريته التي وهبها الله له. أمّا أولئك الذينَ وضعوا توجهاتهم فوقَ إنسانيتهم فالأسى أكبرُ عليهم والحزنُ أعمق، لِما حصلَ لهمُ من تشويهٍ في فطرتهم، وفسادٍ في عقديتهم، وعمى في بصيرتهم. 

           

إنْ الظلمَ والقتلَ والكوارثَ الطبيعية، التي تحلُ على مجموعةٍ من البشرِ في أيّ مجتمع، على اختلافِ عقيدةِ أفراد هذا المجتمع تفرضُ على كلَ فردٍ بحكمٍ كونه إنساناً اولاً، وذو عقيدةّ سليمةٍ ثانيا، أنْ ينظرَ إلى هذه القضيةَ من بعدٍ إنسانيّ لا تطغى عليه مشاعرُ الكراهيةِ والعنصرية. إنَّ تباينَ ردةُ الفعلِ وتعددُ الآراءِ في القضايا الإنسانية، ممّا يشهده العالمُ من جنونٍ غير مسبوقٍ، لا يحتاجُ نظرياتٍ مطولةٍ في علمِ النفسِ، وعمقٌ في التحليلِ، وتبرير للمواقفِ، الأمرُ أبسطُ وأوضحُ من ذلكَ بكثير، فإما أنْ يكون الفردُ ذا نزعةٍ إنسانيةٍ وإما أنْ يكون ذا نزعةٍ حيوانية.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.