شعار قسم مدونات

وكل فتاةٍ بأبيها مغرمة

مدونات - أب ابنة طفل تربية أسرة

ما زال ذاك المشهد البعيد حاضرا في الذاكرة، فتاة لتوها أنهت الثانوية، تجلس على إحدى طاولات قاعة الزيارة بسجن مزرعة طرة بانتظار خروج والدها ومن أمامها ظرف كبير مائل إلى البني الغامق يحمل فى طياته "استمارة ملء الرغبات" للالتحاق بإحدى كليّات الجامعة.

 

يبدو أمرا عاديّا مكررا لكنّ ارتباكا ما جعله استثنائيا، كانت وما زالت تريد كلية الإعلام، لكنّ مجموعها الذي يؤهلها للالتحاق بإحدى الكليات العلمية يقف عائقا أمامها، فما الذي يجعلها تخالف مسير الأهل والأقارب العلمي وتتجه إلى حيث لا يوجد أحد!

 

الكثير والكثير من الاعتراضات ولا بأس ببعض المقايضات جعلت القرار صعبا، وهو أول قراراتها الجديّة، المصيرية كما كانت تراها في حينها! عرضت هذا كله أمام أبيها الذي ابتسم كما عهده دائما وأخبرها بأنّ قرارها بيدها، عليها أن تختار وتواجه باختيارها الجميع وما عليه سوى أن يدعمها، وما عليها سوى أن تُثبت مسؤولية تجاه اختيارها، بعد تلك الكلمات صار أمر الفتاة محسوما، وبهدوء تام وضعتُ أول ملصق لأول رغبة: "كلية دراسات إسلامية – قسم صحافة وإعلام".

 

ثمّة سؤال لا يبرحني، ما أعظم ما يمكن أن نقدمه لأبنائنا؟ العمل الصالح، التربية الحسنة، التعليم الجيّد، كل هذا جميل ومطلوب، لكنّ في هذه الحياة المستعرة التي تكافح فيها كي تحفظ إنسانيتك وتدفع أثمانا باهظة للتمسك بقيمك وأفكارك ويكون جهادك الأعظم أن تُمسك جَمر الصدق العزيز، وسطَ هذا كله هناك ما هو أقيم وأهم تعطيه لأبنائك: الأمان!

 

عنده بدأ شغفي بالكتابة، مقاطع صغيرة وخواطر متناثرة في
عنده بدأ شغفي بالكتابة، مقاطع صغيرة وخواطر متناثرة في "كراسات الدراسة" يقرأها أبي بعناية لم تفتر حتى يومنا هذا، فمع كل كتابة جديدة أحرص أن يكون قارئي الأول

 

أمرّ على ذاكرتي البعيدة والقريبة لأجد أن هذا تحديدا، الأمان، كان هدية أبي لنا على الدوام، تُدفع في قراراتك، تخطئ وتصيب، وعلى مقربة منك "ظهر مشدود" ستستند إليه في أي عُسرة أو عَثرة، تطمئن لذلك فتمضي في حياتك بقوّة مَن لا يخشى التجربة ولا يخاف الخطأ، يعرف طريق الرجوع دائما.

 

أول شتاء ابتعد فيه عن بيت أبي وأمي، وأنا أطوف حول الكعبة يحدوني حنين موجع لرفقتهما، دعوتُ الله لهما بكل خير الدنيا والآخرة

أحببتُ القراءة عن أمي التي لا تترك قصاصة ورقية تفلت من يديها، لكنّ أول كتاب أُهدي إليّ كان من أبي، مجموعة مقالات الرافعي "وحي القلم"، أول حبٍّ للبلاغة والأدب من قصة السمكة التي لم أفهمها إلاّ بعد المرّة الرابعة! ومن حينها أصبح لكل معرض كتاب مصروف مخصص للكتب، وهدية خاصة: كتاب جديد للرافعي، حتى اقتنيت غالب ما أنتج الأديب الحاذق الذي حاز أول دهشتي وانبهاري ومن عنده بدأ شغفي بالكتابة، مقاطع صغيرة وخواطر متناثرة في "كراسات الدراسة" يقرأها أبي بعناية لم تفتر حتى يومنا هذا، فمع كل كتابة جديدة أحرص أن يكون قارئي الأول، ويكون الثناء والنقد والتصحيح النحوي كما العادة، وكما العادة أيضا أطير أنا فرحا بكل مدح على تعبير لغوي أو صياغة جميلة لاقت استحسان أبي فأعيد قراءة ما كتبت بعين أخرى، عين طفلة خطّت أحرفها للمرة الأولى.

 

يظنّ المرء -مغرورا- أنه يمتلك مفاتيح أمره كلها، ولا يكون انكسار شوكة غروره هذا إلا مع أول طفل يأتي به إلى الحياة ليتأكد أنه في حقيقة الأمر لا يملك من سيطرته المكذوبة شيء، تغرس ما تظنه صالحا، لكنك تعلم يقينا أن طرح الثمر ربما لن يعجبك، تبني عقل أبنائك على الوجه الذي تظنه صحيحا، لكنك لا بد وأن تعلم أن هذا العقل الذي تكابد من أجل صقله ربما يخالفك في أكثر أفكارك صلابة وأكثر اختياراتك حبّا، أفكر في ذلك وأنا أتذكر النقاشات التي لا أحصر عددها والجدالات التي خضتها على حق وغير حق وكان والدَي فيها صبورين بينما يكاد ينفد كل ما تبقى من عقلي وأنا أقنع صغيري بأمرٍ ما وهو الذي لا يملك من العمر سوى ثلاث سنوات، فأتعجبّ من تلك الطفلة العنيدة وأُجلّ أكثر حكمة والدَاي.

 

في شتاء 2015، أول شتاء ابتعد فيه عن بيت أبي وأمي، وأنا أطوف حول الكعبة يحدوني حنين موجع لرفقتهما، دعوتُ الله لهما  بكل خير الدنيا والآخرة، كنت كمن يوفي دينا لا يملك له سدادا بالدعاء، بعدها بأشهر قليلة كنتُ على موعد مع قدوم عمر ابني إلى الحياة، واليوم، لا أظن أني أطمع بأكثر من دعاء مثله نكون قد أديّنا به أمانتنا على الوجه الصحيح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.