شعار قسم مدونات

الحياة والحقيقة بين الفلسفة والعلم

blogs - كتب معلقة
الحياة ثمينة جداً، يحصل عليها كل إنسان مرة واحدة ومن ثم يخرج منها نهائياً. كل واحد يحدد ما تكون عليه حياته وكيف يتعامل مع فرصة وجوده في ملعب الحياة قبل أن تنتهي اللعبة بالنسبة له ويخرج تماماً. 
ولادة – تعليم – عمل – زواج – موت. بشكل عام قد تكون هذه هي سلسة الحياة لغالبية الناس مع تضارب في نسب النجاح لا أكثر. ولكن إذا كان السؤال هو مفتاح الحقيقة حين يتبعه بحث وعمل فلماذا الغالبية لا يسألون؟ لغز الحياة معقد حقاً بشكل قد يوصل من يغور في أعماقه إلى الجنون. متاهات لا تنتهي. ولكن ألسنا جميعاً في الحقيقة مجانين؟ أليس تعاملنا السطحي مع الحياة هو ذاته أشد درجات الجنون؟ ندخل اللعبة ونخرجها ونحن نجهل القواعد.

أنا شخصياً أفضل الجنون الأول فهو يحمل هدفا على الأقل ويشعرني بالرضا في أن أبحث عن قواعد هذه اللعبة وأعرف كيف أكون في مكاني الصحيح. يقول ألبرت انشتاين: يجب عليك أولاً أن تتعلم قواعد اللعبة ثم تلعب. لأجل هذا يجب أن نعرف كيف نتعامل مع الحقيقة وكيف ندركها. هل هي جزأين جزء محسوس وجزء غير محسوس؟ حتى لا نتوه دوماً نقرأ لنصل إلى نتيجة ما.

لا أستطيع أن أنقل شعوري بشكل كامل للشخص الآخر حتى يصدق بأنه حقيقة لذلك هنا الحقيقة تتعامل فقط مع الشخص الأول، أي بمعنى أنها (subjective)

نقف أمام عمالقة الفلسفة ونقرأ كيف نظروا للعالم ونقارن حجج هذا بحجج ذاك ونطور فرضياتنا الخاصة ومن فهمنا قد نصل إلى طريق وتولد في عقلونا أسئلة أدق. يفكر ديكارت بمشكلة الجسد والروح ( mnd-body problem) ويتوصل إلى أن الروح والجسد كلاهما يشكلان الإنسان. تتهاوى فكرة الروح أمام عمالقة آخرون من أكبر علماء العصر الحديث ويضعون النظرية المادية (materialism) وأن الحياة كلها عبارة عن سلوك فقط (behaviorism) ولا وجود لشيء خفي اسمه الروح.

الحياة مادة وكل شيء نستطيع فهمه من الفيزياء وهنا سقطت فكرة الروح فهو شيء لا نستطيع إدراكه وهذا يعني أنه ليس بحقيقة لأن الحقيقة لا بد وأن تكون محسوسة أو بمعنى أدق (objective) ويمكننا إثباتها. ينجح الماديون بشكل مسبوق النظير ويفشلون أيضاً في تفسير مسائل ليست بالقليلة. لا يستطيعون فهم الإدراك (consciousness) فيلجأون لإنكاره وأنه لا وجود له. كل يفكر على طريقته والجميل أنهم يفكرون سواءً أصابوا أم لم يصيبوا فلا مشكله.

يتطور العقل البشري من نتاج المعرفة المتراكمة فيأتي جون سيرل بمثال بسيط يبين قصر نظر الماديين، بل وأثبت أن الحقيقة ليس من الضروري أن تكون محسوسة دائماً (objective) وإنما يمكن أن تكون فقط ذاتية الادراك (subjective). الـ objective تعني أن الحقيقة يجب أن نراها ولكن يتساءل سيرل: إذا أنا أتألم وأشعر بالألم فكيف للآخرين أن يعرفوا هذه الحقيقة ويشعرون بما أشعر به بالضبط؟ لا يمكن ذلك بالطبع وأنا فقط من أشعر بهذا وحدي وهذا ينطبق على شعوري بالسعادة والفرح والأمل والحب.

لا أستطيع أن أنقل شعوري بشكل كامل للشخص الآخر حتى يصدق بأنه حقيقة لذلك هنا الحقيقة تتعامل فقط مع الشخص الأول، أي بمعنى أنها (subjective). والجميل أنه لا يعترض على كون الجزء الأكبر من الحقيقة هو (objective) على نهج الماديين بل يصف نفسه مادياً لا ينكر تجانس الحقيقة ووجود الإدراك ويقدم حججا كثيرة على أن التصرفات (behaviors) ليست الخط الوحيد لفهم الحقيقة. نتائج مبهرة في فلسفة جون سيرل تزداد تعقيداً وإقناعاً كلما أبحرنا معه في حجج نظريته وربطها بعلم بيولوجيا الأعصاب (neurobiology).

منذ الأزل والعلم والفلسفة يفسر كل منهما الآخر ويمهد له، فقوانين نيوتن في الفيزياء لها أصل فلسفي وكذلك الاختيار الطبيعي عند دارويين
منذ الأزل والعلم والفلسفة يفسر كل منهما الآخر ويمهد له، فقوانين نيوتن في الفيزياء لها أصل فلسفي وكذلك الاختيار الطبيعي عند دارويين
 

هنا الجميع يبحث عن الحقيقة وفهم الحقيقة وكيف نرى الحقيقة. هؤلاء لا يبحثون في فلسفيات مخروقة الجرة وإنما يؤسسون لعلوم تخدم الحياة وتطورها. هؤلاء أناس عاشوا وأصابوا وأخطأوا وبسببهم جميعاً تتقدم الحياة وتزداد جمالاً وتصبح ذات معنى. هؤلاء بشر ينتمون إلى الصف الأول ممن خدموا العقل البشري وطوروا من الإنسانية والحياة.

من أفكارهم جميعاً ونظرياتهم وصلنا إلى جيل الذكاء الاصطناعي الذي لا يزال يعمل نقلات فارقة في تاريخ الحياة على هذا الكوكب إلى درجة تجعلني لا أستبعد ما يقوله الفيزيائي ستيفن هوكينج بأن الذكاء الإصطناعي سوف يتجاوز البشر بعد مائة أو مائة وخمسون عاماً ويصبح صاحب الحضارة متجاوزاً تجربة الغرفة الصينية الشهيرة (Chinese room experiment) التي تظهر أن الآلات يمكنها أن تفوقنا بالذكاء ولكن في الحقيقة لا يمكنها أن تفهم أو تدرك ما الذي تعمله مما يقلل من احتمالية إمكان إعطاء الآلات مشاعر وأفكار وفهما ذاتيا. ولكن من يدري قد يسيطر الذكاء الاصطناعي بالفعل حيث وأن العلم لم نعرف عنه أنه استسلم أبداً.

منذ الأزل والعلم والفلسفة يفسر كل منهما الآخر ويمهد له، فقوانين نيوتن في الفيزياء لها أصل فلسفي وكذلك الاختيار الطبيعي عند دارويين. ومع هذا يقول الفيزيائي الشهير ستيفن هوكينغ في إحدى نقاشاتة بشركة جوجل:" لقد ماتت الفلسفلة (philosophy is dead.)." قد يكون هذا العالم الجليل محقاً في قوله بأن الفلسفة ماتت ولم تعد قادرة على تفسير ظواهر الكون حيث وأن علوم الفيزياء والرياضيات بكل جبروتهم لا زالوا غير قادرين على تفكيك شفرات الحياة والإجابة على أسئلة الكون الأولى ولكننا لا نستبعد أي شيء طالما والعقل البشري لا يزال يسأل.

_______________________________

* المراجع الرئيسية:

The Rediscovery Of Mind by John Searle
A brief History Of Time by Steven Hawking

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.