شعار قسم مدونات

العقل كخاصية للوجود

blogs - thinking think alone reading
في نهاية المقال السابق قلت إن أسئلة الإنسان بشأن الكون والوجود بحاجة إلى أساس أنطولوجي يمنحها المعنى خارج عقل الإنسان، أي بحاجة إلى أن تكون هناك أجوبة ليس فقط في عقل الإنسان كنظريات أو نماذج تفسيرية لسد الفراغ المعرفي الذي خلقته تلك الأسئلة، وإنما في الواقع الحقيقي، بغض النظر عن إمكانية الوصول إلى هذه الأجوبة.

 

هذا الكلام ليس من أجل المطالبة بالمستحيل، ولكن لتوضيح معنى أن يكون هناك مدلول واقعي للسؤال. وهناك فرق بين عدم إمكانية معرفة الواقع كما هو في ذاته، وبين عدم إمكانية طرح أسئلة ذات مدلول واقعي. مثلا يُمكن أن يوجد مقابل مدلول للسؤال حتى لو كان الوصول إلى الإجابة الصحيحة مستحيلا. فالسؤال "هل للكون خالق؟" قد توجد له إجابة حتى لو كان يستحيل على الإنسان أن يتوصل إليها، وقد يكون سؤالا بلا أساس أنطولوجي، أي سؤال ليس له معنى خارج اللغة والفكر الإنسانيين، لقد تكلمت في مقال سابق بعنوان "في مسألة وجود الخالق" حول هذه القضية.

 

سأطرح فكرة مجازية لتوضيح ما أعنيه بالأساس الأنطولوجي الذي يمنح المعنى للأسئلة، لنفترض أن العقل الإنساني ينطوي على شيء يصله بحقيقة أو أصل الوجود، الله على سبيل المثال أو القوانين الأساسية للوجود -بافتراض أنها موجودة-. في هذه الحالة فإن العقل يكون على صلة مسبقة بالوجود تمكِّنه من طرح الأسئلة الصحيحة، أي التي لها معنى مرتبط واقعيا بالوجود. وفي هذه الحالة نقول إن هناك أساسا أنطولوجيا لهذه الأسئلة.

 

في المقابل، لنطرح مثالا آخر يوضح الافتقار إلى الأساس الأنطولوجي. أسئلة الإنسان الذي يملك -ولو بشكل مجازي- القدرة على طرح جميع أنواع الأسئلة، بحرية أو بدونها. في هذه الحالة على افتراض أن الإنسان -الحر أو غير الحر- كيان قائم بذاته، فليس بالضرورة أن عقله يشتغل في توافق مع الكون والوجود.

 

أما إذا أردنا أن نجعل الأمر أكثر سوءا فلنا أن نفكِّر في عقل الإنسان كشيء تطور عبر الانتخاب الطبيعي، وهو تطور يتعلق بإبقاء النوع الإنساني على قيد الحياة، وليس بالضرورة تمكين هذا النوع، ولا أي نوع آخر، من معرفة الوجود. فكما قال الفيزيائي الأميركي ليونارد سسكند (Leonard Susskind) إن عقل الإنسان كان قد تطور في الغابة بحيث يمكنه الهروب من الأسد، وليس من أجل حدس العالم دون الذري، عالم الكوانتم، ومن هُنا كان الإنسان بحاجة إلى الرياضيات من أجل تمثيل ذلك العالم، إذ لا يمكننا تمثُّله بالحدس المباشر كما نفعل مع العالم المُشاهد.

 

لقد قام إمانويل كانط بالفصل بين العالم كما هو في الواقع والعالم كما يبدو من خلال التجربة التي يخلقها العقل. ولكن مع ذلك بقي العالم يُظهر سلوكا معقولا لا يمكن اختزاله فقط في كوننا نحن من نراه كذلك
لقد قام إمانويل كانط بالفصل بين العالم كما هو في الواقع والعالم كما يبدو من خلال التجربة التي يخلقها العقل. ولكن مع ذلك بقي العالم يُظهر سلوكا معقولا لا يمكن اختزاله فقط في كوننا نحن من نراه كذلك

ولكن مهما يكن حدس الإنسان محدودا تظل الرياضيات في النهاية جزءا من عقل الإنسان، وتظل المعرفة التي يتم تحصيلها بواسطتها معرفة تنتمي في النهاية إلى العقل. فكيف يُمكن للانتخاب الطبيعي الأعمى أن ينتج الرياضيات في النهاية، والتي باتت تمكِّن الإنسان من وصف العالم في مستويات عصية على الحدس والخيال؟ سنعود إلى هذا السؤال لاحقا.   

 

والآن، لماذا يستمر الكون في الإجابة عن أسئلتنا على أية حال، أو بعضها على الأقل وإن بشكل تقريبي؟ هل يعود ذلك إلى كون الإنسان -ممثلا في عُلماء الطبيعة على وجه الدقة- يتساءل بالشكل الصحيح؟

 

على الرغم من أن الفلسفة تخبرنا بأن هذا ليس ضروريا ما لم تكن هناك ضمانات أنطولوجية، لكن الفرضية الأساسية للعلم هي قابلية هذا الكون للفهم العقلي. ليس من الضروري أن يكون هذا الوجود مفهوما للعقل البشري، ولا أن يشتغل وفقا لطريقة اشتغال العقل، هكذا تقول الفلسفة (التجريبية على الأقل) ولكن العلم يبحث عن العقل في الكون، وإلى حد "معقول" يبدو هذا الكون معقولا! 

 

لقد قام إمانويل كانط بالفصل بين العالم كما هو في الواقع والعالم كما يبدو من خلال التجربة التي يخلقها العقل. ولكن مع ذلك بقي العالم يُظهر سلوكا معقولا لا يمكن اختزاله فقط في كوننا نحن من نراه كذلك، فلو كان هذا العالم واقعا غير معقول فلن يبدو لنا كذلك لمجرد أننا نفهمه من خلال مقولات العقل. ألا يدل ذلك على أن مقولات العقل تلك، بشكل ما، هي جزء من الواقع؟

 

لقد ألغت كل من العلوم الإنسانية والطبيعية المسافة التي كانت متوهمة بين العقل والواقع، فأصبح العقل يتبع الواقع، يتشكل بالواقع وفي الواقع باستمرار، ولكن مع ذلك فإن كل فهم للواقع يفترض، ويكشف عن العقل، وهذا ما يدل على أن العقل هو خاصية للوجود بقدر ما هو خاصية للإنسان.  فإذا لم يكن العقل يوجد في العالم والأشياء، أي إذا لم يكن العقل خاصية للوجود فلماذا يجد الإنسان إجابات معقولة كلما ساءل العالم بطريقة علمية من خلال الفكر والتجربة؟

 

أكبر اللحظات التي يبتعد فيها الإنسان عن الطبيعة هي حينما يُسائل الوجود من وجهة نظر
أكبر اللحظات التي يبتعد فيها الإنسان عن الطبيعة هي حينما يُسائل الوجود من وجهة نظر "إنسانية" أخلاقية، هنا يحدث سوء التفاهم الكبير بين الإنسان والوجود
 

وإذا أُلغيت الحدود بين العقل الإنساني والواقع/الوجود فإن عقلانية الإنسان في هذه الحالة تدل على معقولية الوجود كون الإنسان جزءا لا يتجزأ منه. بمعنى أن الإنسان إذا لم يكن ينطوي على بُعد يمنحه استقلالا عن الطبيعة فإن عقلانية الإنسان ناتجة عن الطبيعة نفسها التي هو جزء منها.

  

هل الرياضيات إذن، بوصفها التجسيد الأعلى للعقلانية، هي جزء من نسيج الوجود (الواقعي وليس الذهني فقط)؟ فإذا كان الإنسان هو ابن الطبيعة تماما، ابن الانتخاب الطبيعي، فإن الرياضيات ستكون في النهاية جزءا لا يتجزأ من الطبيعة. ومهما بدا غريبا أن تكون تلك الإنشاءات الذهنية ليست مفارقة ولا متعالية فإن قابلية الطبيعة للتفسير بواسطة العلاقات الرياضية تبدد تلك الغرابة، ففي النهاية هناك رياضيات في الطبيعة، وربما تكون أعقد بكثير من تلك النماذج التي يصنعها الإنسان لمحاكاتها، فلماذا إذن لا تكون هذه الطبيعة هي ذاتها التي وهبتنا القدرة على ممارسة الرياضيات؟

  

ثمة مفارقة محيرة في هذا الموضوع، فلكي يفكِّر الإنسان بشكل صحيح في الكون والوجود يجب عليه أن يفقد حريته المفترضة ليكون بمنزلة الطبيعة نفسها وهي تتساءل، أي عليه أن يتماهى تماما مع الوجود والطبيعة من خلال المعرفة التجريبية. أما اللحظة التي يصبح فيها كائنا على مسافة من الطبيعة فإنه قد يطلق الأسئلة التي لا معنى لها إلا بالنسبة لكائن غريب في الوجود، هو الإنسان نفسه، ولكن ليس بالنسبة للكون. "انظر المقال السابق".

  

وأكبر اللحظات التي يبتعد فيها الإنسان عن الطبيعة هي حينما يُسائل الوجود من وجهة نظر "إنسانية" أخلاقية، هنا يحدث سوء التفاهم الكبير بين الإنسان والوجود. والمشكلة أن هناك شيئا آخر يخص الإنسان وحده على ما يبدو اسمه "المعنى" هو أيضا مرتبط بسوء التفاهم الإنساني الوجودي، وهو أهم شيء بالنسبة للإنسان.

 

والمشكلة الأكبر هي أننا لا يمكننا اختزال المعنى ليصبح جزءا من نسيج الوجود كما فعلنا مع العقل، وذلك لأن معنى المعنى أساسا يقوم على أنه شيء مفارق للطبيعة/المادة. فمعنى الحياة لا يمكن أن يكون شيئا يشبه قوانين الجاذبية، إذ من المفترض أن تكون ماهيته -مثل اسمه- معنوية، وإلا فقد قيمته بالنسبة للإنسان.   

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.