شعار قسم مدونات

عِنَبُ الحُب

blogs - حب

"عائشة"، هكذا كان جوابُ الرسول صلى الله عليه وسلم صريحا من غير تلميح سريعا من غير تردّد أو تأخير، عندما سُئل عن أحب الناس إليه، كأنما تهجّاها بقلبه فكانت مُنتظرةً على رأسِ لسانه، والصاحبُ لم يفرغ بعد من سؤاله، وكذلك كان سلفنا لا يخجل بالحبّ ولا يقمعه، بل يرضاه ويُعلي من شأنه ويتغنى به، فينظم فيه القصائد والمنثور والأمثال والحِكَم، بما لا يخرج عن إطار الخلق العام والقيم المجتمعية المحمودة التي توافق روح الدين.

تلك التي لا يُفصّلها الفقهاء حسبَ أهوائهم، فيخرج لنا أقوامٌ يحسبون أنهم أكثر غيرة من رسول الله على أزواجه، أو أكثر حرصا منه على القيم الإسلامية وأخلاق المجتمع، فيحددون الحدود ويشيدون السدود، ليقمعوا ما جُعل في الناس فطرة ليسَ لهم منه شيء فيحبسوه عن الظهور والانكشاف، حتى أضحى الزوج يخجل باسم زوجته فيسجّل رقمها في هاتفه تحتَ اسمِ الدار أو البيت أو الأهل، وأصبحت كلمة الحب كاللغم الأرضي الذي تمر به العائلة المُجتمعة على قناةٍ ما، فيتشتت شملها فجأة وكأنهم قد أصيبوا بالجنون أو بضربٍ من ضروب الخبل، يسعى كل واحد فيهم للقفز بعيدا لإيجاد مهرب، أو تراهُ يثير ضجة لصرفِ الانتباه عمّا سمعوه بأي شيء أو كلامٍ اتفق، خاصة إذا تمنّعت أداة التحكم فَأبت إلا أن تَعلَق في تلك القناة رافضة تغييرها.

لو بحثت قليلا ستجد في بطون الدواوين والكتب ما قد يخطر على بالك أو لا يخطر مِن غرامياتِ الفقهاء وقصص حبّهم، ومن أجملها ما جمعه الأديب علي الطنطاوي في رسالته
لو بحثت قليلا ستجد في بطون الدواوين والكتب ما قد يخطر على بالك أو لا يخطر مِن غرامياتِ الفقهاء وقصص حبّهم، ومن أجملها ما جمعه الأديب علي الطنطاوي في رسالته "مِن غزل الفقهاء"
 

والدين كما في كثيرٍ من القضايا التي لا يُنصّب نفسه فيها شرطيا على التفاصيل، لا يرضى كذلك بمقعد المتفرج بل يتقدم كوسيط مساعد للتهذيب والتوجيه إلى حيثُ تتحقق فائدة الفرد والمجتمع، دونما حبسٍ وكَبتٍ وإفراطٍ في الحصار والتحسّس، ومن غير تفريطٍ واستقالة من دوره المُرشدِ المُرافق، فينفرطَ العقد ويطغى الطالحُ على الصالح، فيجد البعض في ذلك فرصته للانقضاض على المباحِ لتحريمه والجائزِ لتجريمه، كأن يَمنعَ أكلَ عنبِ الحُب لأنه العنصر الأساس لاستخلاص الخمور، التي من آثارها السّكْرُ والتعلّق المذموم والانصراف عن الذكر والعبادة.

وتلك مغالطة لا شك في بطلانها، فالإسلام عبر نصوصه الصريحة وسيرة نبيه وآثار صحابته وتابعيه لا يُعادي الحُب والبوح بالمكنون والتصريح به، أكان ذلك للزوج يريد به زوجته، أو حتى لآخر إذا أحسّ في نفسه ميولا إلى رُوحٍ تُشاكله فأحبّها وانشرح صدره لها، وأدركَ لِما اعتراه إثرَ معرفتها من شَوقٍ خافق لها وحنينٍ دافق لقُربها واستحسانٍ لجوهرها وفكرها فمظهرها وتفاصيلها، أن ما بهِ رَعدةُ حُبٍ مَاكثٍ مُستَحكِم، لا سَحابة إعجابٍ صَيفية سرعان ما تخبو جذوتها وتتلاشى نشوتها فيصفو قلبه منها منصرفا إلى غيرها. بل يُصبحُ غَيرُها وما سِواها كلّه مُذكّرا له بها، وفي ذلكّ قال المجنون:
دَعا باسمِ ليلى غيرها فكأنما أطارَ بليلى طائرا كانَ في صَدري

ولذلك قيلَ أنه سُكونٌ بلا اضطراب واضطرابٌ بلا سُكون، يَضطربُ القلب فلا يَسكن إلا إلى مَحبوبِه، ولا يزالُ مضطربا شوقا إليه حتى يسكن عنده، وهذا معنى قولهم أنه حَركة القلب إلى المَحبوبِ على الدوام ثم سكونه عنده، وأنه مُصاحبة المحبوب، مصاحبةً له أو لِطَيفِه، فنظموا في ذلك:
ومن عَجبي أني أحنّ إليهمُ وأسألُ عَنهم مَن لقيتُ وهَم مَعي
وتطلبهم عيني وهُم في سوادها و يشتاقهم قلبي وهم بينَ أضلُعِي

الحب مدينة كغيرها من المدن، فيها الفنادق والسراديب، فيها النبيل واللئيم، لكل زائر لها غايتهُ فيها، لا تخلو مدينة من مواطن لأهل الإصلاح ومواطئ قدم لمن راموا الإفساد والعربدة

فالحبّ ما دام صَحيحا مُخلصا كان كالداء إذا أقامَ بالعظم، أو كالماء المُتضمّن في الدم، لا يَختارُ صاحبُه حَمله فيُطلبَ منه وضعه، ولا يقرّرُ بإرادته تكوينَهُ فيهِ وتغليبَهُ عليه حتى يُرادَ مِنه نزعه، فلم يَطلب الدين منه ذلك ولا حَمَله عليه. ولكنه يختار سلوكه المترتبَ عنه ويقرّر أقواله وأفعاله المبنية عليه، عندها تتدخل الإشارات الدينية كما أسلفنا لتقوم مقامَ التوجيه المانعِ لوقوع الحوادثِ في طريقه التي تجعله ضررا وعائقا لا حافزا ومنفعة.

وكانَ لعباس العقّاد في ذلك رأي جميل، يفسّر به لذة الحب بأنها حيلة تعتمدها الطبيعة لجعل غريزة حفظ النوع عملية تلقائية في الانسان، تُرغّب الجنس بالارتباط بالآخر لدوافع نوعية وفردية، "وأن المَنَعة في العشق أو الاستعصام في العلاقات بين الرجال والنساء مصلحة طبيعية نوعية، بل مصلحة فزيولوجية كما نستطيع أن نسميها في العصر الحديث، وليست بمصلحة اجتماعية في القبيلة أو مصلحة دينية يوجبها الدينُ وحده ولا يوجبها شيء غيره على أتباعه.

فإذا كانت آداب العشق هي الآداب التي تكشفُ الفضائل النوعية في العاشقين معا، فالاستعصام لازمٌ فيها والتجمل بالعفة ضرورة من ضروراتها، لأن الاستسلام للشهوات ضعف لا يرشّح صاحبه للبقاء ولا يدل على استحقاقه للحب والإيثار، وليس من فضائل النوع أن ينساقَ الفتى لأول غواية، لذلك فالطبيعة والدين معا يدعوان للعصمة في العشق وينكران التدفع إلى الشهوات".

فالحب مدينة كغيرها من المدن فيها ناطحات السحاب ومجاري المياه، فيها الفنادق والسراديب، فيها النبيل واللئيم، لكل زائر لها غايتهُ فيها، لا تخلو مدينة من مواطن لأهل الإصلاح ومواطئ قدم لمن راموا الإفساد والعربدة، فهي كالمادة الأوّلية التي تشكّلها يد مستعملها، مادّة إذا حملتها يد عابثة أفسدتها وأخرجت منها صُورةً بشعة منفّرة، وإذا وقعت في قلبٍ نقي طاهر مخلصٍ ذواق ونبيل، رأيتَ في عُصارتِها جمالا فاتنا وحلاوة عجيبة، فالفرع يشي بأصله.

حرّموا العنب وأكله، وكان حريا بهم أن يُدنوا عناقيده من الناس، فيتيسر بلوغه وقطفه بالأيدي النقية، بَدلَ أن يمنعوه فيقع الناس على شجرته تحت قاعدة كلّ مَمنوعٍ مَرغوب
حرّموا العنب وأكله، وكان حريا بهم أن يُدنوا عناقيده من الناس، فيتيسر بلوغه وقطفه بالأيدي النقية، بَدلَ أن يمنعوه فيقع الناس على شجرته تحت قاعدة كلّ مَمنوعٍ مَرغوب

ولو بحثت قليلا ستجد في بطون الدواوين والكتب ما قد يخطر على بالك أو لا يخطر مِن غرامياتِ الفقهاء وقصص حبّهم، ومن أجملها ما جمعه الأديب علي الطنطاوي في رسالته "مِن غزل الفقهاء"، والتي ختمها بقوله: "ولو ابتغيتُ الاستقصاء وتتبعت المراجع لجمعتُ من غزل الفقهاء كتابا".

لذلك لم ينكر رسول الله على كَعبٍ تقديمه لقصيدته بينَ يديه بأخبارِ سُعاد، فقد كانت تلكَ عادة العرب، ولا أنكرَ على مُغيثٍ الذي شاعَ في المدينة ما حَلّ به لفرطِ ما يُكنّه مِن حُبّ لِبَريرَة، وما تقابله به من صُدودٍ وتجاهل، فقد كانت بريرة أمّة زُوَّجت بمغيث الذي أحبها حبّا شديدا، ولكنها نالت حريّتها فلما خُيّرت في أمرها اختارت التحلّل مِن زواجها، فشقَّ ذلك على قلبِ مغيث، فتوسّطَ رَسولَ الله ليشفعَ له ولقلبه عندها، فلما علمت أنها شفاعةٌ لا أمرٌ نبوي أبَت أن تراجعهُ وقالت " لا حاجةَ لي فيه".

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للعباس رضي الله عنه: "ألا تَعجبُ من حُب مُغيثٍ بَريرة وبغضِ بَريرَةٍ مُغيثا"، فانظر كيفَ يسعى أقوام للتفريق بين الأحبة، ونبيهُم الذي يزعمون الاقتداءَ به يمشي في جَمعهم، وكيف ينكرون على المُحبّين ويغلّظون عليهم ورسولهم يتعجّب ولا يُنكر ولا يُعنّف بل يتوسّط ويشفَع.

وإن تعجَب لذلك فالأعجبُ أن مُغيثا كان يطوفُ في سِكك المدينة يبكي عليها لِما ألمَّ به مِن حُبّها، لعلّ قلبها يرق لحاله فتُطلق سراحه بوَصْلٍ جَديد، وهو على حاله تلك يراه الصحابة ويسمعونه ويعلمون بقصته، ولا يعترضون طريقه لوعظه والإنكار عليه، ولكن قام آخرون في عصرنا يرون أنهم أفقه منهم وأكثر حرصا على سلامة مجتمعاتنا وأشد اهتماما بقلوب المؤمنين!

حرّموا العنب وأكله، وكان حريا بهم أن يُدنوا عناقيده من الناس، فيتيسر بلوغه وقطفه بالأيدي النقية، بَدلَ أن يمنعوه فيقع الناس على شجرته تحت قاعدة كلّ مَمنوعٍ مَرغوب، فيُداسَ بأرجل الناس ويُصبحَ مَشاعا لا حدّ فيه ولا رقيب، يستحيلُ خمرةً فاسدة عَصرتها أقدامُ الابتذال، تُسكرُ وتلهي وتميت القلب عوض أن تحييه، فلا هم عَصموا المجتمع عن الوقوع في ضيق الحرام، ولا هُم أخذوا بأيدي المحبّين إلى رحابة الحلال والمباح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.