شعار قسم مدونات

لماذا نقرأ؟

Blogs- books
سؤالٌ يبدو غريبًا، إذ تبدو الحياة طبيعيّة دون قراءة، ها نحن نعيش، نتوالدُ، نعمل في كلّ اتّجاه، نأكل، ونموت؛ ما حاجتنا إلى القراءة إذًا؟ ما الّذي سيتغيّر لو نحن رَمَينا الكتاب خلفنا، وذهبْنا بعيدًا في مسارب الحياة ومجاهلها؟ ما الّذي سينقصنا إنْ لم نقرأ؟ وما الّذي ستُضيفه القراءة إلينا، نحن الشّعوب الّتي تتكاثر بسرعةٍ كسرعة انقِسام الخلايا، وننمو مثل الفِطريّات في كلّ مكان!

   

هل سألَ أحدُنا نفسَه: لماذا كانتْ أوّلُ كلمةٍ في الوحي الخالد، الّذي هبطَ به جبريل من الأعالي إلى أعالي روح الرّسول الأعظم: (اقْرأْ)؟ لِمَ هذه الكلمة بذاتِها القائمة، بجسدها الباذخ المُوغِل في الغُموضِ والكَشْفِ في آن؟ لِمَ تتدفّق هذه الكلمة من فيوض السّماء إلى قلبِ نبيٍّ توّاق في دينِ سيكون الخاتَم، وفي رسالةٍ ستكون الباقية، وفي كتابٍ سيكون المُهَيمن؛ لِمَ هذه الكلمة دون سِواها؟ سؤال يبدو بدهيًّا قابِلاً للتّأويل أوّل الأمر، وصعبًا إشاريًّا غير قابلٍ للتأويل بعدَ ولوجِ بوّابته المفتوحة على المُطلَق!

      

لكنْ لحظة، السّؤال الّذي تبدو له وجاهة أكثر من (لماذا نقرأ؟) هو: ما الّذي يدفعنا إلى القراءة؟ أولئك الّذين تتخطّفهم الكتب ما الّذي وجدوه فيها حتّى ملأتْ عليهم كِيانَهم ووقتهم وتفكيرهم؟ ما الّذي جذبهم في تلك اللّيلة المُوغِلة في العتمة لكي يتخلّوا عن النّوم اللّذيذ في أشدّ حاجتهم إليه من أجل أنْ يُتِمّوا قراءة النّصّ المُتّقد الّذي يحملونه بين أيديه؟ ما السّحر الّذي ينطوي عليه ذلك النّصّ حتّى يصعب عليهم مفارقته؟

      

لكنْ لحظةً مرّة أخرى؛ السّؤال الّذي يبدو أكثر منطقيّة من السّؤالَين السّابِقَين؛ هو السّؤال الّذي يقف على الضّفّة الأخرى: لماذا لا نقرأ؟ لماذا لا نُدمن القراءة؟ لماذا لا تُصبح القراءة ثقافةً يغرق فيها المجتمع كلّه بأطيافه كافّة؟ لماذا لا يُصبح مشهد الأفواج البشريّة الّتي تركب المواصلات العامّة وهي تحمل كتابًا مشهدًا مألوفًا؟

        

أنا أقرأ لأنّني أريدُ أنْ أتجوّل في عقول الآخرين، وأدخل دروبهم الّتي دخلوها، وأبيتُ في المَنامات الّتي باتوا فيها
أنا أقرأ لأنّني أريدُ أنْ أتجوّل في عقول الآخرين، وأدخل دروبهم الّتي دخلوها، وأبيتُ في المَنامات الّتي باتوا فيها
        
العقّاد يقول: (أهوى القراءة لأنّ عندي حياةً واحدةً في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تُحرّك كل ما في ضميري من بواعث الحركة. والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تُطيلها بمقادير الحساب). ومعناه أنّه بالقراءة يعيش الإنسان أكثر من حياة، ومنذُ خُلِق الإنسان كانتْ فكرة الخلود هاجِسًا لا يُفارقه، وعلى إيقاع نغمات هذا الخلود السّاحرة استطاع إبليس أن يُغويَ آدم ويُغريه: "قال هل أدلّك على شجرة الخُلدِ ومُلْكٍ لا يَبْلَى"، والقراءة نوعٌ من العروج إلى ذلك الخلود الخفيّ.
           
وماذا يعني أنْ تقرأ كتابًا جيّدًا؟ معناه أنْ تقرأ فيه كلّ الكتب المختبئة خلفه، تلك الكتب الّتي انصهرتْ في عقل الكاتب ووِجدانه، ثُمّ قدّم شَهدَها المُذاب على شكلٍ سطور. أنا أقرأ لأنّ العالَم الّذي أعيشُ فيه يعجّ بالفوضى واللامنطق، الكتاب يجعلني أعيشُ في عالَمه، عالَمه حتّى لو كان خياليًّا يبدو أكثر منطقيّة من واقعنا المريض. أنا أقرأ لأنّ لديّ في اليوم أربعًا وعشرين ساعةً فحسب، وإنْ لم أقرأ، فستسمرّ الحياةُ بالضّياع، وستتدفّق باتّجاه الخُواء. أنا أقرأ لأنّ التجربة علّمتْني أنّ وقتَ القراءة هو الوقت المُكتَسَب وما سِواه ضائعٌ أو أكثره يذهبُ سدًى وبلا طائل.
           
أنا أقرأ لأنّ التّجربة علّمتْني أنّ أرقى المُتع الحسّيّة هي تلك الّتي تخلو فيها إلى كتابٍ يتجاوز بكَ حدودَ الزّمان والمكان. أنا أقرأ لأنّ لي عينَين، أرى بهما عالَمي المحسوس الّذي يبدو متناهِيًا في الصّغر، والكتاب له آلاف العيون الّتي تفتح لي النّوافذ على عوالم لا متناهية. أنا أقرأ لأنّني أريدُ أنْ أتجوّل في عقول الآخرين، وأدخل دروبهم الّتي دخلوها، وأبيتُ في المَنامات الّتي باتوا فيها، وأسهر في اللّيالي الّتي سهروها، وأستمتع بالمناظر الّتي استمتعوا بها. أنا أقرأ لأنّني أريدُ أنْ أتخلّص من بعض الحماقات الّتي أرتكبها أحيانًا، أريد أنْ أتطهّر من لوثة اللّهاث وراء كلّ شيءٍ بلا جدوى، أريد أنْ أتخلّى عن بعض السّذاجات الّتي توقعنا فيها الحياة بحُكم علاقاتنا مع الآخَرين.
         
أنا أقرأ لأنّ الكتاب أفضل من كثيرٍ من البشر، أكثرُ حكمةً منهم، أشدّ وفاءً، وأصدقُ لهجةً، وقادرٌ على أنْ يفهم تناقضاتي أكثر منهم، يعرف كيف يُبكيني ويُضحكني، وكيفَ يُميتني ويُحييني. أنا أقرأ لأنّه قد لا تسنح لي فرصةً لألتقي كاتبي المُفضّل إلاّ عبر أوراقه، ذلك الكاتب الّذي يخطفني منّي، وأتبعُ رائحة الكلمات خلفه مشدوهًا، لأنّه يعرفُ كما قال مُظفّر: "تنويني وشدّاتي وضَمّي وجُمُوعي"! أنا أقرأ لأنّني أعتقد أنّ في القراءة غموضًا ومغامرة، غموضًا مثل من يدخل غابةً في اللّيل فيها ألفُ سِرّ، ومغامرة مثل مَنْ يمشي في حقلٍ مزروعٍ بالألغام. على القلب أنْ يتوقّف في الدّقيقة سبعين مرّة من أجل أنْ يلتقط الأنفاس جرّاء ما يشعر أو يتوقّع.
          
أنا أقرأ لأنّني لا أريدُ أن أحيا الحياة الّتي أرادَها الآخَرون لي، ولا أنْ أسير في الدّروب الّتي سارَها النّاسُ أمامي، ولا أن أتوقّف في المحطّات الّتي توقّف فيها كلّ النّاس
أنا أقرأ لأنّني لا أريدُ أن أحيا الحياة الّتي أرادَها الآخَرون لي، ولا أنْ أسير في الدّروب الّتي سارَها النّاسُ أمامي، ولا أن أتوقّف في المحطّات الّتي توقّف فيها كلّ النّاس
       

أنا أقرأ لأنّني أرغب في مثل هذه السّنّ الّتي وصلتُ إليها أنْ أتخلّص من الأحكام الفقهيّة الجاهزة الّتي تربّيتُ عليها في الصّغر، وبي حاجةٌ مُلحّة أنْ أتخلّص كذلك من بعض الخرافات والأساطير، وأنْ يشاركني العقل  الواعي في بناء مُعتقداتي. أنا أقرأ لأنّني أحببتُ أنْ أحرّك الماء الرّاكد في بُحيرة عقلي. أنا أقرأ لأنّ القراءة هي حجر الاشتِعال بالنّسبة للكتابة، ولا يُمكن أنْ أكون كاتِبًا جيّدًا ما لم أكنْ قارِئًا جيّدًا. أنا أقرأ، لأنّ مُتطلّبات جسدي قد أشبعتْ أو يُمكن إشباعها، أمّا متطلّبات العقل والرّوح والوِجدان فلا يُمكن أنْ تُشبَع، ولذلك أُبقي منارة القراءة مُضاءة، ونار المعرفة مُشتعلة. فأنا بالرّوح لا بالجسم إنسان.

           

أنا أقرأ لأنّني أريدُ أنْ أتخلّص من الموت الّذي يعيشُه الكثيرون، ولأنّني أُدرك أنّ الفرقَ بين الّذين يقرؤون والّذين لا يقرؤون هو الفرق ذاته بين الأحياء والأموات. أنا أقرأ لأنّني لا أريدُ أن أحيا الحياة الّتي أرادَها الآخَرون لي، ولا أنْ أسير في الدّروب الّتي سارَها النّاسُ أمامي، ولا أن أتوقّف في المحطّات الّتي توقّف فيها كلّ النّاس، فلديّ حياتي الخاصّة، ودروبي المُشتهاة، ومحطّاتي المُنتقاة. أنا أقرأ لكي أكون حُرًّا في زمن العبوديّة المعرفيّة والتّبعيّة الفِكريّة. أنا أقرأ لكي أتجدّد في زمن الجمود، ولكي أتقدّم في زمن الرّجوع، ولكي أتعملقَ في زمن الانهِيار. أنا أقرأ لكي أُصقَل، فالذّهب لا يلمع دون صَقل، وأنا أقرأ لكي أشتعل، فالنّار لا تتّقد دون احتكاك.

        

أنا أقرأ لأنّ القراءة تُقرّبني من الرّسالة الّتي أحملها، وتُوصلني إلى أحلامي بأقصر الطّرق. أنا أقرأ لكي أُشفَى من الجمود والفجاجة والتّقديس والعُزلة البائسة والإحباط واليأس والتّعصّب والعَمى والكبت والجوع. أنا أقرأ لأنّني شَغوفٌ بالحقيقة، الحقيقة المُطلَقة، تلك الحقيقة المُستحيلة، لكنّ لذّة المعرفة تحثّني على أنْ أواصل البحث عنها؛ ولا شيءَ يفعل ذلك أفضل من القراءة.

     

يقول ألبرتو مانغويل في (المكتبة في اللّيل): "كلّ قارئٍ يوجَد كي يضمنَ لكتابٍ مُعيَّن قَدْرًا مُتواضِعًا من الخلود، القراءة بهذا المفهوم، هي طقس انبِعاث". وأخيرًا أنا أقرأ لأنّني مُدمن، أشعر بتهارشٍ فظيعٍ في عقلي، إنّني أحتاج إلى جرعةٍ يوميّةٍ ودائمةٍ منها لكي لا أموت، لكي لا تصدأ روحي، ولكي أضبطَ إيقاع الأفكار الّتي تبدأ بالتّلاطم والهياج في اللّحظة الّتي يطول فيها تناول الجرعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.