شعار قسم مدونات

من المسجد إلى المتحف.. المشهد العمراني العربي المغاير

blogs لوفر أبو ظبي

على الرغم من ضبابية وقسوة المشهد العربي المعاصر وتعدد سرديات العنف والألم والدم والصراع به، إلا أنه من الواجب تأمل مستجدات تلوح في الأفق ويتحتم التفاعل معها فكرياً ونقدياً. من هذه المستجدات ما تحقق من إضافة للسياق الثقافي والمتحفي. فقد افتتح من يومين فقط متحف اللوفر، أو ما سمي "لوفر الصحراء" في العاصمة الإماراتية أبوظبي من تصميم المعماري الفرنسي الشهير جون نوفيل، مصمم معهد العالم العربي في باريس الذي نال عنه جائزة الأغاخان في العمارة عام 1987 والحاصل على جائزة بريتزكر في العمارة عام 2008.

 

استمر العمل في المتحف لمدة عشرة سنوات وبلغت تكلفة إنشاؤه مليار دولار لا تتضمن مبلغ نصف مليون دولار دفعها الجانب الإماراتي حتى يُسمح له باستغلال اسم اللوفر. وفي خلال أسابيع يُفتتح في العاصمة القطرية الدوحة، متحف قطر الوطني من تصميم نفس المعماري ليعرض أطروحات عن ماضي قطر وحاضرها ومستقبلها. إذن نحن أمام قرابة شهر من الاحتفالات الممتدة في السياق العربي بمناسبة احتضان عاصمتين خليجيتين لصرحين متحفيين فريدين محليا وإقليميا وعالميا.

 

المسجد كان المشروع المعماري الأكبر والأبرز دائما في المدينة العربية بل كانت المساجد بمثابة صروح إسلامية بارزة متميزة في سياق المدينة ونسيجها
المسجد كان المشروع المعماري الأكبر والأبرز دائما في المدينة العربية بل كانت المساجد بمثابة صروح إسلامية بارزة متميزة في سياق المدينة ونسيجها
 

نحن أيضا وكما يتراءى بصورة متعاظمة، أمام مشهداً عمرانياً مغايراً في المدينة الخليجية والشرق أوسطية المعاصرة. هذا المشهد يتقدم فيه المبنى المتحفي تدريجيا ليحل محل مبنى المسجد في المكانة المعمارية والقيمة البصرية ولكن والأكثر إثارة للحيرة في الدور الثقافي والاجتماعي والتنويري والإنساني. ولذا يحق لنا أن نتسأل هل المشروع الثقافي التنويري الحضاري الذي يمثله المتحف، يحل بتسارع محل المشروع الديني الروحاني المجتمعي الذي يمثله المسجد في سياق الخليج والشرق الأوسط الجديد؟ هل أصبح المتحف أكثر ملائمة لنداءات التطور والحداثة بل والليبرالية والعلمانية التي تصدح بقوة في فضاءات الأنظمة العربية؟ هل سيحاصر دور المسجد في شعائر يومية وبالتالي لا يوجد مبرر للتعامل معه كأحد أهم مكونات المدينة العربية المعاصرة كما سبق له ان كان أحد الأعمدة الفقرية لمدن المجتمعات الإسلامية التقليدية؟

 

لمراجعة منصفة، فإننا نوثق فيما بعد حقبة طفرة النفط الأولى في دول الخليج وعلى امتداد السياق الشرق أوسطي، فإن المسجد كان المشروع المعماري الأكبر والأبرز دائما في المدينة العربية بل كانت المساجد بمثابة صروح إسلامية بارزة متميزة في سياق المدينة ونسيجها. كما تبارى زعماء الأمة العربية في إتباع تقليد بناء المساجد العملاقة في مواقع فريدة لأنها أولا تؤكد فكرة الهوية الإسلامية التي استخدمت بصورة مكثفة. ومن جهة أخرى، هي تخليد لزعيم وخاصة إذا ارتبطت باسمه وعصره وسنوات حكمه.

 

تفهم القائمين على مباني المتاحف في المدينة الغربية المعاصرة أن انتشار فكرة المتاحف الافتراضية الرقمية بسبب الثورة المعلوماتية، يتطلب إعادة صياغة لدور المتحف في المدينة ليستمر جاذباً لسكانها

رصدت المساجد العملاقة تبنى في العواصم العربية من تونس والدار البيضاء إلى دمشق وبغداد ووصولا إلى جامع الصالح العملاق في صنعاء. وفي العقد الأخير وباستثناء واحد هو مسجد الشيخ زايد في مدينة أبوظبي الذي افتتح في ديسمبر عام 2007، فان فكرة بناء المساجد الصرحية تضاءلت بشدة إن لم تكن قد خرجت تماما من أولويات تميز عمران المدينة الشرق أوسطية والخليجية وعمارتها وحل محلها صروح معمارية جديدة تساهم في تسويق المدينة عالميا والمساعدة في احتلالها ولو مساحة ضيقة على مسرح المدن العالمية أو المتعولمة.

 

يعود جانب من تفسير هذا المشهد إلى التضاؤل التدريجي والمتعمد أحيانا لدور المسجد الاجتماعي والثقافي والتعليمي والمعرفي والسياسي وتحوله إلى مكان لممارسة الطقوس ثم غلقه وانفصاله الكامل عن المنظومة الاجتماعية والإنسانية للمدينة. فقد تضاعفت هذه الرؤية بعد تداعيات الربيع العربي، وتوجه أنظمة عربية متعددة إلى تسويق فكرة أن المنتسبين للإسلام والمجتمعين في المساجد يمثلون خطورة حقيقية أمام متطلبات الاستقرار التي ينادي بها زعماء أربكهم مشهد ثورات الربيع العربي، وتكاتفوا بكل تناسق غير مسبوق، لإجهاضها وتشويه صورتها بأسرع ما يمكن.

 

من جهة أخرى فقد حدثت ثورة حقيقية في مفهوم دور المتحف في المجتمع والمدينة في السياق الغربي. لقد تفهم القائمين على مباني المتاحف في المدينة الغربية المعاصرة أن انتشار فكرة المتاحف الافتراضية الرقمية بسبب الثورة المعلوماتية، يتطلب إعادة صياغة لدور المتحف في المدينة ليستمر جاذباً لسكانها وزوارها. لذلك عملوا على أن يكون المتحف جزءاً لا يتجزأ من حياة المجتمع ويجسد قيمه ويحفزه ويهيئ أجياله لمستقبل مبهر ومبدع لأن المتاحف هي بالمقام الأول عن الناس وينشئها الناس.

 

ولذلك تجنبت المتاحف المعاصرة في المدن الغربية أي أفكار لإقصاء قطاعات من المجتمع أو أن تتحول إلى مباني للصفوة والشريحة الثرية النافذة. إذن لم تَعد المتاحف في عالم القرن الواحد والعشرين أماكن لعرض مقتنيات تاريخية أو إبداعات فنية فقط، ولكنها أصبحت فضاءات عامة ديمقراطية تحفز الحوار والتعلم والتساؤل والاندماج. فهل تلعب المتاحف الجديدة في المدينة الخليجية والشرق أوسطية أدوارا مشابهة؟ أم تتحول إلى فراغات منعزلة مبهرة ولكنها منفصلة عن المجتمع المحلى فلا تحقق أهدافا تنويرية أو تثقيفية أو اجتماعية وديمقراطية.

 

المدينة الخليجية والشرق أوسطية المعاصرة تحتاج للمسجد وتحتاج للمتحف، ولكنها تحتاجهما من أجل مجتمعاتها المحلية وتعظيم ثقافة الإبداع والمعرفة والحوار والتسامح وليس من أجل نيل رضا العالم
المدينة الخليجية والشرق أوسطية المعاصرة تحتاج للمسجد وتحتاج للمتحف، ولكنها تحتاجهما من أجل مجتمعاتها المحلية وتعظيم ثقافة الإبداع والمعرفة والحوار والتسامح وليس من أجل نيل رضا العالم
 

إذن الإشكالية الحقيقية ليست في التفضيل بين المسجد والمتحف، ولكنها في كيفية الاطمئنان إلى الوعي الكامل باستمرارية احتياج المجتمعات العربية لهذين النوعين الجوهريين من المباني. ولكن شريطة أن يمتد هذا الوعي ليشمل استيعاب الأدوار الجديدة التي يجب أن تؤدى من خلالهما.

 

فأما المسجد فيجب أن يتجاوز فكرة أنه فضاءاً محدوداً، حتى مع تضخم مساحته، تمارس فيه الطقوس والشعائر فقط. بل يجب أن يتحول المسجد المعاصر إلى ملتقى مجتمعي تنويري حواري اجتهادي استكشافي بامتياز. مكان لإنتاج المعرفة وتقديم أطروحات تعليمية ونقدية معاصرة. كما أن المتحف لا يجب أن يبنى فقط من أجل منافسة عالمية محمومة لكي نحظى بلقب المدينة العالمية، ولكنه يجب أن يكون محركاً إبداعياً نقدياً دافعاً لحيوية التساؤل بين قطاعات المجتمع ومسئولا عن ثورات متتالية في مفاهيم المعرفة والفن والجمال والديمقراطية والإبداع.

 

نعم المدينة الخليجية والشرق أوسطية المعاصرة تحتاج يقيناً إلى المسجد وتحتاج أيضا إلى المتحف، ولكنها تحتاجهما من أجل مجتمعاتها المحلية وتعظيم ثقافة الإبداع والمعرفة والحوار والتسامح وقبول الأخر وليس من أجل نيل رضا العالم عنا. إن العالم وخاصة على مستوى الأصعدة الحضارية والثقافية والمعرفية بل والروحانية، يحترم الدول التي تضع مجتمعاتها المحلية أولوية في المشروع الحضاري والتثقيفي والتنويري. وفقط من خلال هذا التفضيل، تحظى الدول بمكانة عالمية وتتبوأ المواقع الأفضل على المسرح العالمي وعلى منصات الإنسانية وإعلاء القيم والمبادئ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.