شعار قسم مدونات

العقلانية في فكر فهمي جدعان

blogs فهمي جدعان
لا أجازف ابتداءً بالقول، وبقدر كبير من الاطمئنان، أن الحديث عن عقلانية الدكتور فهمي جدعان هو ذاته الحديث عن حالة كانطية عربية، ولكن مع بعض التغييرات التي تستدعيها خصوصية فضاءات أزمة العقل العربي، إن العقلانية لديه من نوع مختلف لم يألفه الكثير من المفكرين العرب الذين سارعوا بالكشف والتحليل، ومن ثمّ إطلاق خلاصاتهم لإشكاليات الواقع العربي. بيد أن جدعان يقف اليوم موقف كانط لا في القرن الثامن عشر، بل في القرن الحادي والعشرين، متسائلاً أولاً: عن هذه الخلاصات، وحدودها، وإمكاناتها، لا سيما خلاص الإسلام السياسي، وما يقابله من خلاص علماني. 

المستوى التوفيقي

وجدعان إن وصف كغيره من العقلانيين العرب، دوماً يتخذ من العقل منارة لإرساء فلسفة إنسانية تحاول صياغة قيم الحق والحرية والجمال، بيد أنّ لعقلانيته مزية هي ما يصفها بالعقل التكاملي: بين العقل المعرفي والعقل الوجداني، إنه يحاول إحكام خيوط شبكة الوعي للإنسان العربي بطريقة أكثر علمية، ولذلك نجده يتوسل بعقلانية يستخدمها كمبضع لتشريح جسد الخطابات العربية المدعيّة خلاصاً ما على طريقتها؛ إنها تلك العقلانية التي جعلت منه حالة فريدة في الفكر العربي المعاصر، فتارة يستخدم العقل الوجداني لينتقد تلك التي يصفها "بالعقلانية المسرفة" التي يوغل باستخدمها بعض العلمانيين العرب، وكأنّ العقل لديهم "إله يجبُّ إله الأديان". وتارة أخرى يستخدم العقل المعرفي، الذي لم يسمح له بقبول ذلك الوعي الزائف الذي يقدمه أصحاب الخطاب الإسلامي، لتقوده عقلانيته إلى هدي من نوع جديد.

يرفض جدعان لاهوت الإقصاء المؤسّس على علاقة تنافرية بين الإسلاميين والعلمانيين العرب، ففي كتابه (في الخلاص النهائي) كانت عقلانيته محاولة لإنقاذ خطابات متضادة صنعت استقطاباً بائساً، من خلال رفع غطاء التنافر والترافع بينها، محاولاً تسليط الضوء على بنية مشتركة بين الخطابين الإسلامي والعلماني. فكان المستوى التوفيقي لعقلانيته مؤسّساً على اعتقاد نظري بالتناقض الظاهري لهذين الخطابين، كمحاولة للكشف عن مبادئ قاعدية تحقق إمكانية التضافر بدل التنافر. إن جدعان إذ يرفع غطاء التناقض الظاهري، لإبراز عناصر قمينة وأساسية يمكن أن تحقق قاعدة مشتركة لتلك الخطابات، فهو يعتقد أولاً بأن إشكالية العقل العربي لا ترتد إلى أساس واحد، أو علة واحدة، ومن ثمّ استحالة تحقيق تقدم حقيقي في صيغة أحادية الجانب يزعم امتلاكها، وبمفرده وغائيته الخاصة، هذا الخطاب أو ذلك.

الإصلاح الراديكالي، لدى فهمي جدعان، هو الاعتراف المتبادل من قبل ثنائي العنف: السلطة ومعارضتها، وقبول الآخر؛ والتسليم بقيمة دولة العدل
الإصلاح الراديكالي، لدى فهمي جدعان، هو الاعتراف المتبادل من قبل ثنائي العنف: السلطة ومعارضتها، وقبول الآخر؛ والتسليم بقيمة دولة العدل

المستوى الراديكالي

في كتابه الأخير (مرافعة للمستقبلات العربية الممكنة)، يظهر جدعان متخلياً عن مهمة التوفيق بين خطابات التضاد، والكشف عن العناصر المشتركة بينها، وكأن كتابه المرافعة بات ثورة على كتابه (في الخلاص النهائي). ورغم أن عقلانية جدعان لم تسمح له بالغضب الثوري، إلا أن المُلاحظ في كتاب المرافعة، أنه لم يستطع مقاومة التشاؤم ممّا وصل إليه حال الإنسان العربي راهناً، إنه تشاؤم الفيلسوف الذي لم تتحقق رؤاه؛ لأنها الأفضل على الدوام في زمن القبح والحمق والفكر الظلامي، إنه تعب الفيلسوف العقلاني الذي يحلم بالحق والعدل والجمال، ولكن كلما تبصّر واقعه العربي، أوجس في نفسه حزناً مغلفاً بالتشاؤم، حينها قد يكتشف فجأة أنه مثالي، حتى وهو واقعي بأدواته العقلانية.

في المرافعة يحاول جدعان، وباستحضار الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، فهم جدلية السياسي مع العنف والإرهاب اللذان يعصفان بالمنطقة العربية من حيث أنهما (كانا ماثلين على الدوام، وشاخصين كظل للسياسي، في احتكاره للعنف) وكأنه حيثما وجد هذا السياسي، وجد التقابل العنيف بين السلطة ومعارضتها؛ (إنه الشر الراديكالي الذي يقترن بالسياسي في كل تاريخ، والذي يكشف عن سمة التضاد والتناقض التي تتلبس أساسه العقلاني)، بل حتى العقل نفسه بات متورطاً بهذا التاريخ الكارثي (من حيث إن العقل في ذاته ينكر شرور السياسي ودنسه، ويدين الأيدي القذرة التي تحركه، لكنه في الآن نفسه يظل محركاً أساسياً له، وشاهداً على نجوم اللاعقلاني فيه).

هذا فضلاً عما يعتقد به جدعان من مؤامرة غربية على هيئة تدخلات خارجية لإفشال أي حراك تحرري، وبلا تردد يقبل بهذا المصطلح الشعبي، على اعتبار أنّ (المؤامرة هي الوجه الشعبوي لما يسمى في النظريات السياسية "الاستراتيجيات السياسية في العلاقات الدولية") ثمّ يستتبع قائلاً: (هذه حقيقة لا يمكن نكرانها إلا فاقد الفهم والمعرفة).

العقلانية لدى فهمي جدعان اليوم، تعني الإصلاح الراديكالي بما هو الخير العام، في الدولة العادلة الإنسانية الأخلاقية القادرة على الدفاع عن حقوق الإنسان، وعلى درء المفسدة وجلب المصلحة

وفي قلب السياسي، يُحمّل جدعان هذا الأخير، "هذا اللاعقلاني"، هذا "الشر الراديكالي"، نوازل راهنة من عنف يعصف بالإنسان العربي ومتعلقاته، فيطالب بالإصلاح الأخلاقي بما هو إصلاح راديكالي في فضاء السياسي. وجدعان إن بدا في الغالب الأعم كانط التوفيقي بين خطابين متمازين عن بعضهما البعض، محاولاً بمخياله الفلسفي تأمل ضرب من المتضادات المتآلفه، فإنه في كتابه الأخير يتسائل: (ما الذي يجدر بالمفكر العقلاني الإنساني الأخلاقي الواقعي أن يقترح ويقول ويختار؟).

ثم يحاول حل أزمة العقل العربي بجعل إشكاليته راديكالية، فيختار ما يصفه "بالإصلاح الراديكالي" قاصداً به الإصلاح السياسي، العاجل والضروري، والمتزامن مع إصلاح النوع الإنساني "الإصلاح التربوي المبكر"، فإصلاح جدعان هو "الاجراءات العاجلة" التي تدخل من باب "المسارات الناعمة"، وهي المسارات التي يعترف بأنها لكي تؤتي أكلها تتطلب مدى زمنياً، إنها "نداءات المصير" كونها البديل العقلاني الإنساني الأخلاقي للتغيير في صيغته التي تتلبس تجليات الإسلام الراديكالي اليوم.

يوجه جدعان مفهوم الإصلاح الراديكالي إلى مقولة السياسي، بوصفها أفق الإعصار والصراع المتنازع عليه، وفي مثل هذا الإصلاح تتخلى عقلانيته عن وظيفتها التوفيقية، ليكون إصلاحها طريقاً ثالثاً، بين الإصلاح التحسيني (المتخاذل، الكاذب، المعزز للفساد والاستبداد). وبين الإصلاح الثوري العنيف المدمر. وجدعان إن يصف إصلاحه بالراديكالي الجذري، يعني به (تدخلات بنيوية مؤلمة في منظومة الظلم والفساد السياسية والاجتماعية على وجه الخصوص).

إن الإصلاح الراديكالي يتطلب حاضنة سياسية تتبناه، ولكن جدعان شرطها بالصدق والجدية في الإصلاح العاجل، بوصفه المخرج السلمي للراهن العربي من أتون الكارثة. إن الإصلاح الراديكالي، فيما يرى جدعان، هو الاعتراف المتبادل من قبل ثنائي العنف: السلطة ومعارضتها، وقبول الآخر؛ إنه التسليم بقيمة دولة العدل، وقطع دابر الظلم والتناحر والافناء المتبادل؛ إنه يعني أن الوطن للجميع بقرار ديمقراطي تداولي، وهو القرار الذي يجب أن يسلّم به جميع المتورطين في العنف والتدمير الذاتي؛ إنه الحريات الأساسية لمواطنة حقة، إنه تحييد الدين عن فضاءات العنف، وممارسات التوحش، التي شكلت إساءة للدين، وانحراف عن مقاصده الإنسانية، من حيث أن حاكمية الله، بما هي مطلب الخطاب الإسلامي السياسي، ليست في مظاهر القتل والسحل والحرق والرق والسبي، وغيرها من ممارسات لا إنسانية، وبلا رحمة وبلا قلب وبلا يقين من دين، بل من حيث أن الله يُعبد بالعدل، (وحيثما وجدت أمارات العدل، فثمّ شرع الله).

إنّها عقلانية تجعل من الدين في عيون إنسانية، بالتزامن مع نداء "تحرير الإسلام" من خلال إعمال العقل في عملية التأويل القرآني، كأداة لتخليص الدين من نوازع الشر الإنساني، التي قد تسحبه معها نحو التماهي في مركب لفعل لا أخلاقي يحط من صورة الدين؛ إنها العقلانية التي حذرت من التأويل الذري والذكوري على حد سواء.

وأخيراً، إنّ عقلانية جدعان اليوم، تعني الإصلاح الراديكالي بما هو الخير العام، في الدولة العادلة الإنسانية الأخلاقية القادرة على الدفاع عن حقوق الإنسان، وعلى "درء المفسدة وجلب المصلحة". إنّ الإصلاح الراديكالي هو النداء العقلاني السلمي، والمرافعة الجدعانية العاجلة والضرورية للمستقبلات العربية الممكنة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.