شعار قسم مدونات

العرب في زمن البوح

BLOGS كتب

تستعذب أصوات عربية جلد الذات باستدعاء مقولات تعميمية رائجة منذ عقود؛ من قبيل أنّ "العرب لا يقرؤون". لتأكيد هذه الوصمة؛ تقع الاستعانة بمؤشرات إحصائية مذهلة عن شح العناوين المطبوعة في سوق الكتاب العربي ومعدلات مطالعتها، لتمنح انطباعات فاجعة، بحق، مقارنة مع أرجاء أخرى من العالم.

 

لكنّ هذه السردية النمطية تختزل المعضلة ولا تجرؤ على إثارة أسئلة ذات صلة. فما الذي يجتذب العرب لأن يقرؤوه أساساً من بين العناوين المعروضة في بعض أرجاء سوق الكتاب العربي إن كانت مهترئة الصلة بالواقع؟ وهل يرى المؤلفون العرب حوافز تدفعهم لنشر أعمالهم في ظل المعضلات المزمنة التي ترزح تحتها صناعة الكتاب في بلدانهم؟ وهل يحظى الكتاب بفرص حقيقية للانتشار والتمدد عبر أسلاك التجزئة ولعبة المحاور السياسية وسياسات الحصار والقطيعة بين العواصم الشقيقة التي ينبذ بعضها بعضاً؟ أليست بعض الكتب عريضة اتهام لمن يقتنيها أو "سلعة أمنية" جديرة بالحظر، بينما تتطاول قوائم العناوين المحظورة وقد تُقام طقوس لحرق الكتب التي لا تعجب الحكم والحاكم؟

 

تقتطع الروايات والأعمال القصصية والسردية حصصاً متزايدة من سوق الكتاب العربي، وبعضها منشورة بلغة البوح اليومي المارقة من الفصحى أحياناً، أو غير الوفية لسلامة اللسان العربي
تقتطع الروايات والأعمال القصصية والسردية حصصاً متزايدة من سوق الكتاب العربي، وبعضها منشورة بلغة البوح اليومي المارقة من الفصحى أحياناً، أو غير الوفية لسلامة اللسان العربي
 
البوح الروائي مثلاً

تتواصل المعضلات المزمنة في واقع القراءة العربي وسوق الكتاب، لكنّ المياه آخذة بالجريان في الوادي على ما يبدو، لاسيما مع ازدهار سوق الرواية العربية، التي تبزغ فيها أقلام شابة على تفاوت في إمكاناتها وجدارتها. ولهذا التطوّر صلة بتفاعلات عدة؛ منها تنامي ثقافة البوح. فالانتعاش الكمي الذي تشهده الرواية العربية هو من تعبيرات إقبال الأوساط الشابة على الإفصاح الذاتي، خاصة مع صعود الشبكات والمدونات وتطبيقات التواصل.

 

تقتطع الروايات والأعمال القصصية والسردية حصصاً متزايدة من سوق الكتاب العربي، وبعضها منشورة بلغة البوح اليومي المارقة من الفصحى أحياناً، أو غير الوفية لسلامة اللسان العربي. وقد تجاوزت هذه الأعمال سوق الكتاب التقليدي المترهل إلى خيارات النشر الشبكي من خلال منصات ومبادرات كان من بواكيرها دار "ناشري" الكويتية ودار "سوسن" المصرية وغيرهما.

 

وبمعزل عن فحص منسوب الجودة في الصنعة الأدبية؛ فإنّ هذه الأعمال بما تقوم عليه من البوح، الذي يجري على ألسن الشخصيات وعبر سرد الوقائع، تأتي في صميم زمن البوح الفردي للجماهير، الذي تشهده المجتمعات الإنسانية عموماً، ومنها مجتمعات العرب، بأثر التشبيك الإلكتروني والتطبيقات التواصلية المتعددة وتفاعلات ذات صلة.

 

 ثقافة البوح التي تتفاعل في مجتمعات الحاضر فتغوي الأفراد بعرض جوانب من حياتهم اليومية وخصوصياتهم الشخصية في الشبكات، وتمكين الجمهور من الاطلاع عليها ومواكبتها
 ثقافة البوح التي تتفاعل في مجتمعات الحاضر فتغوي الأفراد بعرض جوانب من حياتهم اليومية وخصوصياتهم الشخصية في الشبكات، وتمكين الجمهور من الاطلاع عليها ومواكبتها
 
مساحات البوح ماضياً وحاضراً

كانت مساحات البوح الشخصي محدودة للغاية فيما مضى، وكان بعضهم يلجأ إلى التنفيس عن ذاته عبر كتابات جدارية في دورات المياه العمومية. كانت تلك بمثابة "تغريدات" سياسية لاذعة وإفصاحات مجتمعية متمردة، وإن جنح بها الابتذال المرتبط بخصوصية المكان. أما ثقافة البوح التي تتفاعل في مجتمعات الحاضر فتغوي الأفراد بعرض جوانب من حياتهم اليومية وخصوصياتهم الشخصية في الشبكات، وتمكين الجمهور من الاطلاع عليها ومواكبتها.

تمارس أجيال الحاضر فنون الإفصاح عن الخصوصيات والانفعالات الشخصية بالصورة والمشهد والنصوص. ومن تقاليد المرحلة أن يلجأ الأفراد إلى التعبير العلني عن انفعالاتهم الآنية ووجدانياتهم اللحظية عبر الشبكات الاجتماعية وتطبيقات التواصل، ويشمل ذلك المكاشفة بتحولاتهم وتقلباتهم وأوجاعهم ونزواتهم بالبث المباشر أيضاً، تحت عناوين مثل: "الحياة مملة، أشعر بالجوع، يغالبني النعاس، هل الانتحار فكرة معقولة؟".

 

أوْجز رسم كاريكاتوري بارع مفارقات المعايشة اللحظية المفعمة بالإفصاح، التي يعج بها هذا التحول، بتصوير حال شخص حمله المسعفون إلى عيادة الطوارئ، بعد أن أدمَته سكاكين وفؤوس وأدوات حادة استقرت في أنحاء جسمه. بقي الجريح منشغلاً بهاتفه الذكي ليواصل البوح بانفعالاته الفاجعة في مواقع التواصل الاجتماعي، بتعبيرات من قبيل: "أشعر بالألم"، وسط حيرة المسعفين وذهولهم.

 

قد يخرج أحدهم بمقطع عفوي يتحدث فيه عن مسألة عابرة أو يُدلي فيه بتعليق طريف، فيحظى من فوره بذيوع هائل غير متوقع يستدرجه إلى مزيد من المقاطع

اغترف الرسم الساخر شيئاً من الواقع ولم يجنح إلى المبالغة، فالأفراد يمارسون البوح بأساليب شتى حتى في المواقف العصيبة والداهمة التي يُتوقع منهم التصرف خلالها بمسؤولية. يدرك الفرد القيمة الإعلامية للموقف الاستثنائي العصيب وفرصته في الذيوع، فيقوم بحمل المشهد عبر هاتف ذكي مصحوباً بتعليقات يكشف بعضها عن تبلد الأحاسيس تحت وطأة شغف جارف بالبث وكسب الاهتمام الجماهيري.

 

مفعول الإحساس بالذات

تتعاظم ثقافة البوح الآني بتأثير تحول تاريخي في الأدوات التواصلية المتاحة في المجتمعات، بما منح الفرد قدرة التعبير عن ذاته ومخاطبة الجماهير دون متطلبات تُذكر. يشعر الفرد بذاته وبقدراته التواصلية أكثر من أي وقت مضى، بما يحثه على الإفصاح للجماهير عن رؤاه ومواقفه وانفعالاته باسترسال وثقة كما لم يحدث عبر التاريخ الإنساني، وقد ينسلّ من مجتمعه المباشر إلى مجتمعات متعددة غير مرئية ينغمس فيها آناء الليل وأطراف النهار.

 

قد يخرج أحدهم بمقطع عفوي يتحدث فيه عن مسألة عابرة أو يُدلي فيه بتعليق طريف، فيحظى من فوره بذيوع هائل غير متوقع يستدرجه إلى مزيد من المقاطع. وإن اشتد عوده في صنعة المخاطبة الشبكية خلال أمد يسير فإنه يغدو "شخصية عامة" ويرتقى مراتب التوجيه الجماهيري وتتسابق الشركات للإعلان في صفحاته وقنواته وحساباته في مواقع التواصل، وقد "تكتشفه" محطات التلفزة فتتعاقد معه وتمنحه أفضل أوقات البث.

 

إنها تفاعلات مذهلة قياساً بزمن كان التعليق الإعلامي على الشأن العام حكراً فيه على طبقة محدودة من المحظيين، بينما تمتلك جماهير الحاضر، من حيث المبدأ، فرص التعليق والتعقيب على القضايا جميعاً في الشبكات والشاشات؛ خاصة إن ضمنت النجاة برأسها. فانتعاش ثقافة البوح في البيئات العربية مرتبط بحيازة الأفراد أدوات التواصل وإمكانات البث بعد أن احتكرتها دول وسلطات راهن بعضها على أنّ من يمسك بالدولة يقود المجتمع، وهي فرضية تضعضعت نسبياً تحت سلطان الواقع الجديد.

 

ثقافة البوح تشي بثقة متزايدة تتملك الأفراد بالفضاءات التواصلية، مع إحساسهم بالقدرة على الإسماع والتأثير، وحتى استفزاز مجتمعاتهم وعالمهم لتأكيد الذات أو لكسب الأضواء وإثارة الجدل
ثقافة البوح تشي بثقة متزايدة تتملك الأفراد بالفضاءات التواصلية، مع إحساسهم بالقدرة على الإسماع والتأثير، وحتى استفزاز مجتمعاتهم وعالمهم لتأكيد الذات أو لكسب الأضواء وإثارة الجدل
 

لكنّ السلطات المستبدة ترفض منطق نهاية التاريخ عند هذه النقطة، فهي تدفع بجيوشها الإلكترونية لإغراق مشهد البوح الجماهيري برواياتها الساذجة، وتمارس في الوقت ذاته فنون الترهيب والردع والتوجيه إزاء مجتمعاتها للتحكم بفعل البوح الذاتي وضبطه أو خنقه. ثمة ردة جسيمة يشهدها الواقع الإعلامي والشبكي العربي بعد انتعاشه، ومعها يجوز القول إنّ السلطات اهتدت أخيراً إلى اختراع شعوب افتراضية مزيفة وأبرزتها في هيئة التعبير الشبكي عن الشعوب الحقيقية، ونجحت بأقدار متفاوتة في الهيمنة على اتجاهات المضامين كما تتجلى في الوسوم الرائجة أو "الترند". تحققت هذه الردة عبر مزيج من فعل الجيوش الإلكترونية والحملات الموجهة واستمالة المشاهير وسن القوانين المشددة وفرض الإجراءات الرادعة، مع إخضاع أبرز الفاعلين الشبكيين أو ترهيبهم أو تغييبهم لاحتواء حالة البوح من داخلها.

 

ورغم محاولات الاحتواء المتزايدة؛ فإنّ ثقافة البوح تشي بثقة متزايدة تتملك الأفراد في الفضاءات التواصلية، مع إحساسهم بالقدرة على الإسماع والتأثير والاستقطاب والضغط، وحتى استفزاز مجتمعاتهم وعالمهم لتأكيد الذات المتمايزة عن سياقها أو الساعية لكسب الأضواء وإثارة الجدل. يتصرف الفاعلون الشبكيون على طريقة "المشاهير" أحياناً، بتحويل الشأن الخاص إلى قضية عامة. تقرر إحداهن، مثلاً، خلع قطعة قماش عن رأسها عبر مقطع مرئي يكفي لإشعال جدل بشأن "الحجاب"، وتقوم أخرى عبر مقطع آخر باتخاذ قرار ستر الشعر بموجب الالتزام الديني، مع إشغال الجماهير في الحالتين بالحدث واستدرار ردود الفعل واستثارة التجاذبات. أما المشاهير القادمون من منصات الغناء والتمثيل والأزياء والرياضة، فلهم فنونهم في اختطاف الأنظار إليهم من خلال تمكين المجتمع من التلصص على خصوصياتهم، إلى درجة بث الصور والمقاطع الشخصية من غرف تبديل الملابس وأحواض الاستحمام، وحتى عبر افتعال إشاعات وفضائح حولهم أو حولهن لكسب الاهتمام، ضمن سياقات صادمة أحياناً.

 

بوح الطفولة الجماهيري

أتقنت الأجيال الجديدة ممارسة الإفصاح والتعبير عن الذات بثقة غير مسبوقة، وهي حالة تتفاعل بدءاً من الطفولة التي لم تعد حائلاً دون التمكن من مخاطبة الجماهير والتأثير فيها عبر شبكات التواصل وتطبيقات الأجهزة. اختطف عهد الإفصاح الطفولي العربي للجماهير الأنظار منذ مشهد المحاكاة الشهير الذي عمد إليه طفلان مصريان حاذقان يوم أن تفتحت أزهار الربيع العربي، التي سحقتها الدبابات لاحقاً. وقف أحد الطفلين في دور اللواء عمر سليمان، ضابط المخابرات العربي الأبرز وقتها، وانتحل الآخر دور الضابط الواقف خلفه الذي اشتهر بالعينين الزائغتين. أحرز مقطع الطفليْن ملايين المشاهدات في أيام معدودات من فبراير/ شباط 2011، وهو امتياز لم تحلم بمثله محطات تلفزة بحيالها، بما يؤكد امتلاك أجيال الحاضر قدرات مذهلة على التواصل الجماهيري قياساً بما كان سابقاً.

 

يباشر الأفراد الإفصاح عن أنفسهم عبر وسائط جديدة، كما تعجز الدوريات الورقية المترهلة عن استيعاب السيول المتعاظمة من مداد الأقلام في المجتمع مقارنة بما تفيض به الشبكات بمدوناتها المتضخمة

يمنح هذا المنحى فرصاً لإخراج فعل البث والتواصل الجماهيري من مركزياته المعهودة، بعد تمليك الأفراد قدرات التواصل الجماهيري المستقل تقريباً عن الدول والسلطات والصناعة الإعلامية التقليدية، بما يتيح فرصة غير مسبوقة لأن تتعدد التعبيرات وتتباين المواقف ضمن النسق المجتمعي الواحد، خاصة إن تحقق قدر من الحرية والأمان. وبهذا فإنّ ثقافة البوح تعيد فهْم المجتمع على أنه أكثر تنوعاً وأقل تجانساً في اتجاهاته وآرائه ومواقفه، علاوة على أنه سيبدو أكثر تأثراً بنزعات نفسية جارفة ومتجاوزة للجغرافيا، في زمن العولمة والتشبيك بآفاقه الصاعدة، فيكون البوح الشخصي في بعض صوره انعتاقاً عن النسق المحلي التقليدي والتحاقاً بأنساق عابرة للجغرافيا وفق منحى غربي مُعَوْلَم.

 

مع هذا التحول؛ يباشر الأفراد الإفصاح عن أنفسهم عبر وسائط جديدة، كما تعجز الدوريات الورقية المترهلة عن استيعاب السيول المتعاظمة من مداد الأقلام في المجتمع مقارنة بما تفيض به الشبكات بمدوناتها المتضخمة. من القسط الاعتراف بأنّ المدونات كشفت عن وفرة الإمكانات المخبوؤة في حقول الكتابة والتأليف النصي، لاسيما من الأجيال العربية الشابة التي لم تعترف بها بعض المنابر الصحفية التقليدية حتى الآن. وما كان للعرب أن يكتشفوا أقلاماً هائلة العدد من بينهم لو بقيت مقالات الرأي مرتهنة لدوريات مطبوعة احتكرت امتياز نشر المقالات وأعمدة الرأي عبر تحيزات وتواطؤات متعددة في الإبراز والحجب.

 

يعيش العرب زمن البوح، الذي يتطلب فحص دقة المقولات التقليدية عن أنهم "لا يقرؤون"، فرغم استمرار أزمة القراءة في عالم الورقيات حتى مع ازدهار سوق الرواية نسبياً؛ إلاّ أنّ مفهوم "القراءة" ذاته يقتضي إدراكاً جديداً لمساراته المتعددة وأشكاله المستجدة، دون أن يعني ذلك بالطبع أنّ العرب قد فارقوا المقطورات الأخيرة في المؤشرات العالمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.