شعار قسم مدونات

موقف في حياة طالبة طب

مدونات - طب doctor hospital

صباح هذا اليوم، تلقيت اتصالا مفاجئا من أحد الأشخاص الذين لا يتوانون عن اغتنام الفرص للسؤال عن أحوالي، وإمدادي بدعوات الخير. هو رجل في الخمسينات، التقيته صدفة في قلب المستشفى خلال مروري بأول مصلحة لي هناك. كنت جديدة في هذا العالم الغريب، أحاول استكشاف خباياه. أمضي فيه كل يوم أربع ساعات، في مغامرات عجيبة لتفكيك رموز ملفات المرضى، وتحليل كلام الأطباء الذي لا أستوعب منه سوى القليل.

  
في أحد الأيام، وبينما كنا نحاول أنا وصديقتي نتعلم استجواب المرضى، تعرفنا على هذا الرجل الطيب. أمطرنا عليه وابلا من الأسئلة، التي لم نستخرج من خلالها سوى قلة من المعطيات، لضعف معلوماتنا. وبالمختصر، فهمنا أن الرجل يعاني من تطور ورم. وأنه أتى لاستئصاله.

 

مرت الأيام، وكلما مررت بجانبه ألقيت عليه السلام، بنصيحة من والداي اللذان دأبا أن يرددا على مسامعي أن المرضى يحتاجون إلى الرعاية والاهتمام بقدر حاجتهم إلى التطبيب. وقد كنت أحاول أن أصلح لشيء ما في هذه المصلحة الجراحية التي لم أكن أفقه فيها الكثير. خاصة وأني كنت أستفيد من ملفات هؤلاء المرضى أكثر من استفادتهم من معلوماتي الطبية. لذا فقد كنت أعتبر لطفي تجاههم حقا مشروعا. غير أنني لم أتوقع بتاتا أني سأكون المستفيد الأكبر من محاولتي الصغيرة للترويح عن ألمهم. كان هؤلاء المرضى لا يترددون عن المناداة لي "دكتورة" مع أنني في الحقيقة، لم أكن أحمل من هذا اللقب سوى الوزرة البيضاء، وسماعاتي الطبية. الشيء الذي أسعدني أكثر مما تخيلت.

   

أذكر أني سمعت يوما ما أن ذاك الرجل بصدد الخروج من المستشفى، بحكم أنه تعافى ولم يعد هناك داع لإقامته هناك. أخبرته بالموضوع وطلبت منه الانتظار إلى أن يرده الخبر الرسمي من طبيبه الخاص. مؤكدة عليه بضرورة اتباع كل النصائح حتى يتعافى بشكل كامل. وكعادته أمطرني بدعوات الخير، وأرسل هداياه الثمينة إلى والداي في الغيب. لكن ما لم أتوقعه، هو أن يطلب مني رقم هاتفي ووعده إياي أن يعرفني على أسرته.

 

قد لا نملك الوقت للاهتمام بألم الآخرين، وهو أمر ليس بهين، فنحن نحتاج أن نساعد من يحتاج إلينا، بقدر حاجتهم إلى مساندتنا
قد لا نملك الوقت للاهتمام بألم الآخرين، وهو أمر ليس بهين، فنحن نحتاج أن نساعد من يحتاج إلينا، بقدر حاجتهم إلى مساندتنا
  

مرت الأيام وتلقيت اتصالا أولا منه، ثم ثانيا وثالثا، إلى غيرها من الاتصالات التي كانت تسعدني أيما سعادة، خاصة وأنه حرص على معايدتي خلال الأعياد والسؤال عن أحوال عائلتي. ثم قام بزيارة خاصة لي بالمستشفى، ودعوة لزيارته في مدينته، ثم أخبرني عن رغبته في لقاء والداي.

 

واليوم تلقيت مرة أخرى اتصاله. حدثتني على الهاتف صبية تحمل نفس اسمي، لكن أصغر مني. كنت أحس من صوتها بالامتنان لاهتمامي بوالدها عندما لم تستطع فعل ذلك. ثم حدثتني زوجته، مغدقة علي بدعوات الخير أكثر مما يفعله ذاك العم. خجلت كثيرا، لأنني لم أتوقع يوما أن تصرفي الصغير سيأخذ هذا البعد الكبير.

 
نحن في الحقيقة، نعيش في زمن سريع جدا، لدرجة أننا لا نملك الوقت للاهتمام بألم الآخرين. وهو أمر ليس بالهين على الإطلاق. إننا نحتاج أن نساعد من يحتاج إلينا، بقدر حاجتهم إلى مساندتنا. هو استثمار نقوم به لنخرجهم من ضيقهم فيعود علينا لاحقا بالمنفعة. لا خسارة أو نقصان، بل على العكس ربح وفير.

 
وهذا هو مبدأ الصدقة في الإسلام، أن تعطي من نفسك على قدر استطاعتك. وبقدر صفاء نيتك، تتضاعف أرباحك. حقا، رحم الله من قال، كلمة طيبة صدقة، تبسمك لأخيك صدقة، كل معروف صدقة.  أنا الآن لست في صدد الافتخار بنفسي، وإنما في محاولة صغيرة مني، للتذكير بفعل الخير مهما صغر، فهو عند الناس كبير وقيمته عند الله أعظم. الزمن لا ينتظر أحدا منا، لذلك فبتركيزنا عليه، نتسابق على من سيتصدره دون أن نشعر بذلك. لكن ما قيمة أن تصل بسرعة، إذا كنت لم تستمتع بصحبة مختلف الناس الذين تضعهم الحياة في طريقك؟

 
حياتنا ليست خطا مستقيما نعيشها وحدنا. وإنما دائرة تأخذ مسارها. يتغير شعاعها حسب الناس الذين تشملهم في كل فترة. ونحن إن لم نكن ملزمين بتكبير هذا الشعاع، فإننا على الأقل نستطيع ترك أثر طيب لمحيطنا. ربما حاجتهم إليه أكثر مما نتخيل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.