شعار قسم مدونات

زيف في زيف

Blogs- social

أخبرني أحد أصدقائي ذات يوم أنه اتفق على موعد مع فتاة تعرف إليها عبر الفيسبوك وأنه شاهد صورها على الإنستغرام وأعجبه كثيرا جمالها وهو يظن أنها ذات أخلاق جميلة وكاريزما استثنائية، وقد كان متحمسا جدا للقائها وأخبرني سرا أنها قد تكون زوجته المستقبلية إن هي قبلت بذلك وكان فرحا بهذا.

 

بضعة أيام مرت، عاد بعدها صديقي ليخبرني أن صدمته كانت أقوى صدمة تلقاها في حياته بسبب تلك الفتاة التي كانت عكس ما ظنه وعكس ما تبديه على الفيسبوك والإنستغرام،لم تكن جميلة حتى ربع الجمال الذي رآه في تلك الصور، وأخلاقها وأقوالها لم تكن توحي بأي معنى من تلك المعاني الذي تحمله منشوراتها على الفيسبوك خاصة تلك التي تتحدث عن تنمية الذات وأهمية القراءة، لقد دهش صديقي حقا ولم يصدق ما حدث له، وهذا مثال بسيط على التناقض الكبير الذي أنا بصدد الحديث عنه بين العالم الافتراضي والواقع.

 
إنك يا صديقي إذا بحثث عن المثالية في هذا العالم فلا مكان لإيجادها أفضل من مواقع التواصل الاجتماعي، ولا بقعة يغمرها الكمال بقدر ما يغمر الإنستغرام والفيسبوك والسناب شات، هذه الأشياء حيث الأشخاص كلهم نجوم وأساطير، كلهم جميلون وذوو أخلاق عالية، كلهم يظهرون بملابس رائعة ومظاهر جذابة طوال الوقت، كلهم يقرأون لدوستويفسكي وكافكا وبوكوفسكي ويشربون القهوة ويسمعون لفيروز، كلهم يتسابقون لإعطاء النصيحة وادعاء العصمة، كلهم يأكلون أطباق شهية ويسافرون ويسكنون في فنادق فخمة، هناك حيث لا مكان للخبث أو القبح، لا مكان للضعفاء، لا مكان للجانب المظلم من الإنسان.
 

خلف ذلك الوجه المبتسم لحظة التصوير قد يرقد قبل التصوير وبعده وجه كئيب آخر لو وزعت كآبته على العالم لكفته
خلف ذلك الوجه المبتسم لحظة التصوير قد يرقد قبل التصوير وبعده وجه كئيب آخر لو وزعت كآبته على العالم لكفته
 

اعتقد أن الوسيلة الكبيرة التي توقع الإنسان في الفخ وتوسع الهوة بينه وبين نفسه هي مواقع التواصل الاجتماعي، فتجده يحاول جاهدا أن يقلد كل ما يقوم به الآخرون من أفعال وأقوال، فيقتني الملابس التي رآها عند ذاك وهذه تتحدث بالطريقة التي تتحدث بها تلك، أمور كثيرة ننقلها من الآخرين ونظن أننا تمثل الكمال وأننا سنظهر بمظاهر الأبطال عند تقليدها، ولا نعلم أن حتى الذي نقلده قد يكون هو أيضا مجرد مقلد لشخصية مشهورة وأن كل ما نراه أمامنا هو مجرد تمثيلية سخيفة وساذجة أفضل ما تقوم به هو إبعادنا عن أنفسنا، وهذا هو أسوأ ما في الأمر.
 
أعتقد أن إدمان مواقع التواصل الاجتماعي بدون وعي أو عقل نقدي سيؤدي حتما إلى مشاكل وصراعات نفسية حقيقية بل وانفصام في الشخصية في أحيان كثيرة وأنا لست محللا أو طبيبا نفسيا كي أتعمق في الأمر لكن أقول هذا من خلال ما ألاحظه في المجتمع ومن خلال ما أقرأه من دراسات حول الموضوع، إذ أن الكثير من رواد شبكة الإنترنت يعانون نفسيا من ضغوطات ومشاكل بسبب ما يرونه على الإنستغرام من مثالية وكمال فيبدأون بالسخط علو حياتهم ووضعيتهم المادية والمعنوية وعلى فشلهم في الحياة ويعانون بسبب ذلك الفارق بين ما يريدون الوصول إليه (أي ما يريدون تقليده على مواقع التواصل) وبين شخصيتهم وحياتهم. المشكل هنا أن أغلب ما يرونه هو زيف وفبركة ولا يعني الحقيقة لا من قريب ولا من بعيد لأن المثالية ببساطة لا يمكن أن توجد في عالمنا.
 
إن ما يريد الناس إبداءه في حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي من الكمال والمثالية بقدر ما هما مستحيلا الوجود فإنهما أيضا ينفران الشخص العادي السليم من مدعي المثالية، والسبب هو أن الحياة ذات وجهين أحدهما سيء والآخر جميل، وبالتالي فإن ادعاء الجمال طوال الوقت مخالف لهذه السنة مما يؤدي إلى خلل ما في المنظومة، هذا الخلل لا يلتقطه إلا ذو عقل سليم وغالبا ما لا ينتبه إليه الكثير من الناس.
 

حساب الشخص على الفيسبوك أو الإنستغرام أو غيرها من مواقع التواصل لا يدل في الغالب على الوجه الحقيقي للشخص، بل على نسخة أخرى مزيفة منه وغير مطابقة تماما للنسخة الأصلية
حساب الشخص على الفيسبوك أو الإنستغرام أو غيرها من مواقع التواصل لا يدل في الغالب على الوجه الحقيقي للشخص، بل على نسخة أخرى مزيفة منه وغير مطابقة تماما للنسخة الأصلية
 

إضافة إلى المثالية والكمال الذين تعج بهما مواقع التواصل الاجتماعي، فإن العنصر الثالث الذي لا يغيب بدوره هو النفاق، وخاصة النفاق الاجتماعي، فتجد الجميع يحب الجميع فجأة، والجميع يتمنى للجميع عيد ميلاد سعيد رغم أنهم لم يتحدثوا طيلة ثلاث مائة وأربعة وستون يوما الأخرى، والجميع يهنئ الجميع والكل يمدح الكل بعبارات منمقة رغم أن الداخل يفور ويغلي حقدا وحسدا، غريب جدا أمر هذه المواقع كيف يمكنها أن تحول شخصا يكرهك كرها شديدا إلى معجب بصورتك على البروفايل ويكتب بكل فرح "نايس" ويعلق عليها.
 
إن حساب الشخص على الفيسبوك أو الإنستغرام أو غيرها من مواقع التواصل لا يدل في الغالب على الوجه الحقيقي للشخص، بل على نسخة أخرى مزيفة منه وغير مطابقة تماما للنسخة الأصلية لذلك فأنا أرى أن الإنترنت يجب أن تستخدم بهدف البحث عن معلومة ما أو استفادة معينة بعيدة عن الأشخاص أما التعرف على الأشخاص وخاصة العلاقات الجدية وتكوين صداقات يجب أن يتم في أرض الواقع بعيدا عن زيف ووهم الإنترنت لأنه الأكثر مصداقية.

لا أستبعد إطلاقا أن يكون من لا يستعملون مواقع التواصل الاجتماعي هم أكثر الناس أصالة في العالم، ولا أتعجب من قرارهم بالابتعاد عن هذه التفاهات، لأنه في نظري أصوب القرارات التي قد يتخذها الإنسان لكني لا أنكر أيضا أنه من أصعبهم، وأرى أيضا أن هؤلاء هم أعمق الناس وأكثرهم صدقا وتطابقا مع ذواتهم لأنهم يرفضون هذا التصنع والنفاق والكذب ويفضلون الابتعاد على عيش حياة مزيفة.

وأخيرا، أريدك -صديقي القارئ- أن لا تندهش مما تراه عينيك أو تقرأه على هذه الشبكة العنكبوتية وأن تكون على يقين تام بأن الكثير مما تراه زيف صرف، وأن خلف تلك الصورة الجميلة الجذابة مئات الصور التي التقطت قبلها لكنها لم تكن جميلة كفاية كي تنشر على الإنستغرام، إضافة إلى أنواع المؤثرات التي تزيد الصور جمالا، وأن خلف ذلك الوجه المبتسم لحظة التصوير قد يرقد قبل التصوير وبعده وجه كئيب آخر لو وزعت كآبته على العالم لكفته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.