شعار قسم مدونات

في حضرة الأشقر الغاضب

Blogs- Eminem
لطالما ردّدت اسمَ هذهِ الظاهرة والتي تُدعى "Eminem" أو كما يُعرفُ باسمِه المَدني "Marshall Mathers" على مسامعِ منْ حولي ومنْ أعرف، ويكونُ الردُّ صادماً مِنْ مُعظمِهم ويَتشدّقونَ عادةً "هاد اللي بغنّي بسرعة!" مع العلم أنَّ عالم الراب يحوي الكثير ممن يُحسنون "السرعةَ" في الغناءِ بشكلٍ أفضلَ منه، وإنّه لَيحزُنُك أنْ تقتصر عبقريّة رجل يقرأ القاموس يوميّاً ليُثري مخزونَه اللغوي قدر المستطاع على ردٍّ ضحلٍ وبسيطٍ كهذا الذي أسمعه، إنّه رجلٌ فيه من التعقيدِ ما يخيفُ معظمَ نقّاده، وفيه من العبقريّة في الكتابةِ والأداءِ الغاضبِ المتمرّد ما تقشعرّ له الأبدان، إنّه "متمرّد ألبير كامو" وبامتياز، ولا يَسعُك إلّا أن تُقرَّ بهذه الحالة المتمرّدة، فسماعُ صوته سيعطيك هذا الشعور بالتمرّد، إنّه مصدر إلهام للتمرّد، حتّى وإن لم تعلم ماذا يعني "تمرّد"؟ فسحرُ صوتِهِ كفيلٌ بتجريدك من كلّ شيءٍ هشّ. 
             
مثيرٌ للجدلِ، ومُرعبٌ على أقلِّ تقدير، واعلم أنّ ظهور "إيمينم" سيخلّف وراءه فوضى، وسيخلقُ عواصف، فهو نقيضٌ للهدوءِ بالمطلق، فهو لم يُوجد إلّا لهذا -إنْ صحّ التعبير- هو ذلك الرجل الذي لا تستطيع تأطيره، ولا تستطيع تصنيفه في مذهب أو فلسفة معيّنة، فهو يتّخذُ مواقفاً أخلاقيّة، وأحياناً لا أخلاقيّة، لديه هوس وتعلّق بابنته Hailie وبالمقابل، يُهاجم المرأة في أغانيه بشكل سادي غير مفهوم، هو ثلاثُ شخصيّاتٍ في شخصٍ واحد، فإن كان "إيمنيم" فأنت على موعدٍ مع فيلسوفٍ لا يُشقُّ له غبار، وستعيش معه لحظاتٍ عميقة، وكأنك تقرأ لجان بول سارتر مصحوباً بشيءٍ من التهكّم، وإن كان "مارشال ماذرز" فاعلم يا سيدي أنّك دخلت عالماً من التراجيديا، ولعلّها أكثرُ ألماً من "بؤساء فيكتور هيجو" والشخصيّة الثالثة، هي Slim Shady فهي تلك الشخصيّة الهزليّة، وكأنّ مهرّجاً في سيرك يستعرضُ أمامك.
           

صارمٌ حدَّ الجُنون، حتّى في هزلِه، عفويٌّ ولا يحابي الجماهير، ويقول ما يعتقد فقط، وهذه علامة عبقريّته، ولطالما كانت العفويّة أحد علامات العبقريّة

إنّ الشُروع في فهم هذه الشخصية لأمرٌ شبهُ مستحيل، وهذا ما تردّد على لسانِه، فقد قال "ستموت وأنتَ تُحاول أنْ تَعرف بماذا أفكّر؟" وكأنّه يَعلم أنّ تحليله قد أدخل نُقّاده في حيرة، فهو الإنسان العَبُوس، والمتجهّم على الدوام، نادراً ما تراه يبتسم، وعندما سُئل عن هذا العُبوس، أجاب أنّه لا يوجد شيء مُضْحك! نعم! إنّ هذا الردّ يُجسّدُ موقفه من هذا العالم، بعيداً عمّا يُسطّر من كلمات في أغانيه.
      
لا أذكر يوماً لم أسمع فيه لهذه الحالة، فهي تَحملُ الأمل في ثناياها المتناقضة! فهو رفيق دربي، وإن كان لا يعلم! وفي أثناء قيادتي للسيارة، فهو سيّد الموقف دائماً، ينتشلني من شعورٍ بالانكسار، أُفرّغ غضبي مستمعاً لغضبه العارم، وترى الأمل في الأفق يُناديك من خلاله، فهو الرجلُ الذي صَعدَ من لا شيء، هو الأديب الغارق في تحليل النفس، وكأنّ شيئاً من دويستوفسكي يعيش بداخلِه ، ولكن على نسقٍ موسيقي، ودائماً ما أقول أنّ "إيمنيم" يجب أن يُصنّف في مقام أعلى من عالم الراب، فقد وصل في أغانيه لعمقٍ لم يصل إليه أقرانه في هذا العالم، وأصبحت كلماته مدعاة للتأمّل والتحليل، ولسوف تلمح تأصيلاً وجودياً في موسيقاه على الأغلب، وفانتازيا أحياناً.

          
ولكنّ الطابع الوجودي هو من يعرّف "إيمنيم" ولعلّ أهمّ ما يميّزه، هو بُعده عن اعتناق الماديّة في أغانيه، على خلاف السواد الأعظم ممن يحترفون الراب، فهو خلقٌ عجيبٌ من خلقِ الله، وقد قرأتُ مقالاً، ولا أعلم مدى مصداقيّته! أنّ بعض العلماء يعتقدون أنّ مقدمة الرأس عند "إيمنيم" أكبر مقارنةً بغيره من البشر، على غرار أينشتين، وهذا يعود لكثرة التفكير والتأمّل، ولا أستبعد هذا بالمرّة، فهو الذي قد دخل موسوعة غينيس، لكتابته وتأديته لأغنيةٍ سمّاها Rap god وتحتوي زهاءَ ألفٍ وخمسمائةٍ وستين كلمة، وهذا خلال ستِّ دقائق وأربعِ ثوانٍ فقط!
          
صارمٌ حدَّ الجُنون، حتّى في هزلِه، عفويٌّ ولا يحابي الجماهير، ويقول ما يعتقد فقط، وهذه علامة عبقريّته، ولطالما كانت العفويّة أحد علامات العبقريّة، وما تراه جليّاً في شخصيّته، هو إقراره بعظمة مغني الراب والناشط الثوري Tupac Shakur وقد صادق على هذا في أكثر من أغنية، حلّل فيها أثر هذا الرجل على المجتمعات ككل، وعلى المجتمع الأسود خصوصاً، وكيف ترك أثراً لن يُمحى أبداً، فيكاد لا يصدّق أنّ Tupac Shakur قد اغُتيل عن عمرٍ يناهز الخامسة والعشرين عاماً!
        

إنّ آخرَ ما صدر عنه، هو أداء ارتجالي دون موسيقى، مزّق فيه
إنّ آخرَ ما صدر عنه، هو أداء ارتجالي دون موسيقى، مزّق فيه "دونالد ترمب" شرَّ تمزيق، وعرض فيه عنصريّة هذا الرجل، وكيف أنّها الشيء الوحيد الذي يُبدع فيه
 

سيرى البعض أّنّي أبالغُ بعض الشيء في وصفي لهذا الرجل، وبعضهم سيراني أهذي! وإنْ سأل سائل لماذا "إيمينم"؟ وما العبرة بالحديث عنه؟ فما أراه هو حالة عصيّة على الفَهم، تاركةً وراءها تساؤلاتٍ كثيرة، باحثةً فيها عن إجابات وتفسيرات، وستفرض نفسها عليك إنْ دخلتَ إلى عالمه وتعمّقتَ فيه! وستُقرُّ بأنّه حالة استثنائيّة تستحقُّ التقليب والتفسير على صعيد سيكولوجي فلسفي وعلى مراحل عدّة، وأتمنّى، أن يكون ما كَتبتُ هنا، وضّح الشيء اليسير لمن لا يعرف هذا الرجل، والذي سيترك بمظهره الخارجيّ سوءَ فهمٍ، لا ينمُّ عن حقيقته، ولا أظنّ أنّ مدوّنة واحدة ستتّع لاستيعابِ كلّ ما يتعلّق به.
          
إنّ آخرَ ما صدر عنه، هو أداء ارتجالي دون موسيقى، مزّق فيه "دونالد ترمب" شرَّ تمزيق، وعرض فيه عنصريّة هذا الرجل، وكيف أنّها الشيء الوحيد الذي يُبدع فيه! غضبٌ شديد يستولي عليه أثناء أداءِه، فهو أحد الثورييّن من الجيش الأحمر الياباني، أو أحد أتباع تشي جيفارا بالكونغو! ولم يَعهده محبّيه على هذا، وبالأخصّ دخوله في السياسة، فهو المتمرّد بلا شكّ، ولكن لم يَخضْ كثيراً في مستنقع السياسة، إذن؛ فمن الطبيعي تلقّي ردودَ فعلٍ كهذه، لأنّه حاربَ الغيبوبة التي سيطرت على الشعب الأمريكي الداعم لهذا المعوّق، المطلَّق تماماً من قِبَلِ الواقع.
            
صُنّفَ على أنّه الأكثر مبيعاً خلال العقد المنصرم، وحاز على جائزة أوسكار كأفضل أغنية أصلية عن فيلم Eight Mile وخمسة عشر جائزة "غرامي" وبفيلم واحد خلال مسيرته انتزع الأوسكار! وذلك لأنّه "إيمينم" وكفى! هو القامة والعملاق، هو المتناقض الشرس، هو مجموعة أعاصير، ولن تعلم أيّهم سيضربُ أولاً، وفي أيِّ اتجاه.
          
وأخيراً، وليس آخراً، فاللانهاية تُسيطر هنا، ولن نستطيع الإحاطة بجميع جوانب شخصيّة كهذه، وكما علّق الدكتور عبد الوهّاب المسيري -رحمه الله- "إنّك لن تستطيعَ قراءةَ النصِّ وتحليله، بمعزل عن سيرة كاتب هذا النصّ" ولهذا أترك للقارئ مهمّة النظر في سيرته المليئة بالصعاب والكدر، والتي أظنّها سبباً رئيساً لخلق شخصيّته المثيرة للجدل، المتمرّدة، والغاضبة، فهي ردّة فعل لما خَبُرَ من أشطر هذه الحياة الغريبة، متبنيّاً رفضاً، وتاركاً أثراً سيبقى رُغمَ أنفِ الكارهِ والمُحبّ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.