شعار قسم مدونات

قصة قضية اقتحام أمن الدولة

MIDAN - EGYPT

(1)

قامت ثورة يناير وتنحَّى حسني مبارك وتم تعطيل الدستور كما تم حَلُّ البرلمان، لكن.. بقي جهاز أمن الدولة!! وصمد الجهاز البغيض الذي يكرهه عامة الشعب المصري أكثر من شهرين، حتى تم اقتحام مقراته بشكل متزامن في عدة محافظات في مارس 2011، وكان المقر الرئيس بمدينة نصر من ضمن ما تم اقتحامه، إلا أن هذا خصيصا كان بمساعدة قوات الجيش المكلفة بتأمينه، وهي هي (قوات الجيش) التي منعتنا من اقتحام مقر لاظوغلي!! وبعدها أعلن وزير الداخلية إعادة هيكلة جهاز أمن الدولة وتغيير اسمه ليصبح: الأمن الوطني.

 

(2)

في أواخر 2011 اتصل بي الضابط الجديد الذي تولى العمل بمكتب أمن الدولة بمدينة العبور (محل إقامتي)، وبعدما عرّفني بنفسه ظل يمدحني ويثني عليَّ بشكل مبالغ فيه لدرجة جعلتني أشك أن ضباط أمن الدولة قد أسلموا في الحقيقة!! المهم أنه طلب أن يقابلني، وقبل أن أسأله عن السبب بادرني بقوله: أنا عاوز أقابلك عشان أثبتلك إن أمن الدولة بتاع زمان قد ذهب بلا رجعة، وأن الوضع الجديد مختلف تماما عن ذي قبل. وبعد تفكير استغرق لحظات.. قلت له: موافق لكن بشرط. قال: وما هو؟ قلت: أن يكون اللقاء بمكتبي. فوافق دون تردد.


(3)

جاءني في الوقت المحدد بالضبط، وأبرز لي "الكارنيه" الخاص به كي أتأكد من وظيفته (وكان برتبة نقيب)، ثم جلس وظل يتكلم أكثر من نصف ساعة يؤكد لي من خلال كلامه صدقَهم في الانحياز للثورة والقبول بمكتسباتها، وأن وظيفتهم الحالية هي مواجهة الفكر التكفيري ومحاربة الشيعة فقط. وبعدما انتهى قال لي: هل تقبل أن نتعاون في هذا الإطار؟ فقلت له: أنت طبعا تعرف مظالم عموم الحركة الإسلامية في رقبتكم؟ قال: نعم. قلت له: فهل تعرف أن أغلب الشباب يفكر في الانتقام منكم؟ قال: كيف؟ قلت له: كُلٌّ بطريقته. قال: وما علاقة ذلك بطلبي أن نتعاون معا؟ قلت له: أقصى ما يمكننا (معشر الدعاة) فعله بالنسبة لكم هو إقناع الشباب بعدم قتلكم. وهنا انتفض من مكانه وظل يبلع ريقه خشية أن يكون كلامي تهديدا له. في حين كان قصدي هو قطع الطريق على تفكيره في إمكانية التعاون بيننا. واستأذن في الانصراف على أن يتواصل معي في وقت لاحق، وبالفعل تركته ينصرف، لكنه لم يتواصل بعدها.

 

(4)

في أوائل 2013 عاود نفس الشخص الاتصال بي مرة أخرى، وطلب أن نلتقي ثانية، فقلت له: بإمكاننا أن نلتقي في مكتبي مثل المرة الماضية، فتعلل بأن أحد الضباط الكبار سيحضر معنا هذا اللقاء، ومن ثم لا يصلح أن يكون في مكتبي، وهنا طلب مني أن يكون اللقاء في مقر أمن الدولة بشبرا الخيمة (التي يتبعها مكتب العبور). وبالطبع رفضتُ وقلت له: لن أذهب إلى أي مقر لأمن الدولة تحت أي ذريعة. فحاول أن يقنعني بأهمية هذا اللقاء وما سيترتب عليه من مصالح مشتركة. فقلت له: وإن كنت أشك في وجود مصالح مشتركة بيننا.. إلا أن الاجتماع في مكتبي لن يمنع تحقيق هذه المصالح. وفي شهر أبريل من نفس العام اتصل بي لإعادة المحاولة. ووجد مني نفس الرد بالرفض القاطع، لكنه هذه المرة كان يتكلم بثقة وثبات أكثر من ذي قبل.

 

(5)

في أواخر نفس الشهر اتصل بي المقدم عبد السلام الخولي من جهاز أمن الدولة بشبرا الخيمة، (وكان هو المشرف على تعذيبي والتحقيق معي أثناء اعتقالي 2008 – 2009) وهنا أيقنتُ أن جهاز أمن الدولة مازال موجودا بنفس وجوهه القديمة ولم يتغير منها شيء، وبالطبع كان الحوار حادا لوجود سوابق بيننا، المهم أنه طلب مني الذهاب إليهم، فقلت له: وما السبب؟ فقال لي: نشرب شاي وندردش مع بعض شوية. فقلت له ساخرا: منذ متى تحولت مقرات أمن الدولة إلى كافتيريات لجلسات السمر وشرب الشاي؟ فغضب وخَشّنَ من نبرة صوته قائلا: عاوزينك في أمور مهمة يا أخ مصطفى. فقلت له: والله لو الأمور المهمة دي ما تنفعش في التليفون.. ممكن حضرتك تشرفني في مكتبي. قال: يعني مش هتيجي؟ قلت: لأ. مش هاجي. فقال مهددا: يبقى تتحمل اللي هيحصلك يا أخ مصطفى.

 

(6)

كان الدكتور البلتاجي يخبرني بردود الأفعال الرسمية على الفعالية، وأكد لي حينها أن هناك تخوفات من تسبب هذه التحركات في إحداث تغييرات قوية داخل وزارة الداخلية. لكن الانقلاب كان أسرع حركة من الرئاسة آنذاك

اتصلت بصديقي الدكتور محمد البلتاجي وطلبت لقاءه لأمر هام، فوافق على الفور، والتقينا وقصصت عليه القصة بكاملها، وأخبرته أن أمن الدولة يلعب بشكل خبيث دون سيطرة أو تحكم من مؤسسة الرئاسة، فوافقني الرأي، وأخبرني أنه سيرفع الأمر للرئاسة (الدكتور محمد مرسي)، واتفقت معه على أنني سأبدأ حملة تصعيد إعلامي ضد جهاز أمن الدولة، ثم اتصلت بأخي وصديقي الدكتور حسام أبو البخاري حيث كان بارزا إعلاميا وأخبرته بما حصل، فقال لي: لابد من التصعيد، خاصة وأنهم اتصلوا بكثير من الإخوة واستدعوهم وأغلب هؤلاء الإخوة يخافون من التصعيد والظهور الإعلامي. فاتفقنا على ذلك.

 

(7)

بدأ الدكتور حسام يصدر تصريحات إعلامية بما حصل من تواصل أمن الدولة مع العديد من أبناء التيار الإسلامي، وكان يذكر اسمي تحديدا وشخص آخر عضو في حزب النور، لكن هذا الآخر سحب نفسه ورفض أن يتفاعل مع الحملة (يبدو أن أوامر قيادات الحزب قد جاءته بذلك، خاصة والحزب حينها كان يقف في صف جبهة الإنقاذ المناوئة للرئيس المنتخب)، وبدأ حسام يدعو للتظاهر أمام مقر أمن الدولة الرئيس بمدينة نصر، وقال حينها: هم يقومون باستدعاءات فردية، ونحن سنذهب إليهم بصورة جماعية. حتى أنه بدأ الدعوة لأن تكون التظاهرة في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، بحيث تكون في نفس توقيت المداهمات التي يقومون بها لمنازلنا، لكننا بعد ذلك اتفقنا على أفضلية التظاهر بعد صلاة العشاء لضمان الحضور العددي وكذلك التغطية الإعلامية، وقلنا: سنصلي في مسجد رابعة العدوية وتبدأ المسيرة من هناك.

 

(8)

قبل التظاهرة بيومين بدر مني تصريح بأننا مستعدون لكل أشكال التصعيد حتى لو أدى ذلك لتكرار اقتحام الجهاز مرة أخرى، وهو ما أحدث ضجَّة وقتها، وقد رفضه أخي حسام وبقية الإخوة المشاركين في التنظيم وأصروا على أنها مسيرة سلمية بشكل كامل، فاضطررت حينها للتأكيد على أنه تصريح شخصي لا يتحمل مسؤوليته أحد غيري، وأعلنت رفض الإخوة له شكلا ومضمونا، رغم أني لم أكن أعرف الفرق بين الاقتحام الأول في مارس 2011 وبين فكرة تكرار الاقتحام!! لكن.. الفارق يكمن في أن أي حراك ثوري مناهض للأنظمة القمعية معرض للنجاح أو للفشل، فعند نجاحه يُسمى عملا ثوريا بطوليا، وعند فشله يُسمّى عملا تخريبيا إرهابيا.

 

(9)

في يوم 2 مايو 2013 صلينا العشاء في جامع رابعة العدوية، وهتفنا بعد الصلاة مباشرة داخل المسجد (يسقط يسقط أمن الدولة) وتفاعل معنا كثير من المصلين، وبدأنا في التجمع أمام المسجد ثم انطلقت المسيرة فيها بضع مئات فقط، كانت الأعداد تتزايد في الطريق لكنها في النهاية لم تزد بشكل كبير، وكانت هناك سيارة عليها سماعات تقوم بالهتاف والتوجيه وبعض الكلمات الإعلامية، وكان يديرها أخونا الدكتور حسام (فك الله أسره)، وفي نفس الوقت كان الدكتور محمد البلتاجي يتابع معي عبر الهاتف ويخبرني بردود الأفعال الرسمية على الفعالية، وأكد لي حينها أن هناك تخوفات كبيرة من تسبب هذه التحركات في إحداث تغييرات قوية داخل وزارة الداخلية. لكن الانقلاب كان أسرع حركة من الرئاسة آنذاك.

 

undefined     

عندما وصلنا إلى مقر أمن الدولة بدأ بعض الإخوة أصحاب الثأر مع هؤلاء المجرمين في طرق البوابات الفولاذية بالحجارة لإحداث أصوات عالية وإزعاج للموجودين بداخله، وعندما شعر الإخوة على سيارة المنصة بأن الأمور قد تفلت وتتسبب في مواجهات مع الأمن.. بدأوا في تحريك المسيرة والاستعداد لإنهاء التظاهرة، خاصة وأن الرسالة منها قد وصلت بشكل بارز، وهنا ظهرت بعض سيارات الإرهاب الشرطية وأطلقت قنابل مسيلة للدموع وطلقات خرطوش لتفريق المسيرة، وبالفعل انتهت المسيرة وتفرق المتظاهرون مع وجود بعض الإصابات والاعتقالات في صفوفنا.

 

(10)

بعد الانقلاب تم تحريك قضية ضد المتظاهرين، وفي يوم 31 / 10 / 2017 تم الحكم فيها على الدكتور حسام والمهندس حامد مشعل والأخ محمد سعادة حضوريا بالسجن المشدد عشر سنوات، والحكم عليَّ وآخرين غيابيا بالسجن 15 سنة، وهذه الأحكام قد تبدو طبيعية في ظل سيطرة نظام القمع العسكري على مقاليد الحكم في مصر، لكن غير الطبيعي في هذا الحكم هو التناقض الصارخ في التعامل مع المتظاهرين، ففي حين لم يظهر المهندس حامد مشعل بشكل بارز في هذه المظاهرة ورغم ذلك تم الحكم عليه بالسجن المشدد عشر سنوات، وفي المقابل شارك الدكتور أحمد خليل خير الله (عضو البرلمان الحالي عن حزب النور) بشكل بارز وهتف وهدد على سيارة المنصة بقوة أن هذه المرة سلمية موحيا بأن القادمة لن تكون كذلك، وهذا ليس سرًّا بل معلن موثق كما تراه في هذا الفيديو ورغم ذلك لم يتم وضع اسمه في القضية أساسا!!

   

     

القضاء المضحك

ومن العجائب المضحكة في أمر القضاء المصري أنه حَكم عليَّ في هذه التظاهرة التي كنتُ أحدَ الداعين لها بالسجن خمسة عشر عاما، كما حكم عليَّ بنفس الحكم في قضية الانضمام إلى تنظيم الدولة (داعش) الذي أهاجمه كثيرا، في حين أنه قد حكم عليَّ في قضية قطع طريق قليوب بالإعدام ومصادرة الأموال رغم أني لم أشارك فيها أصلا ولم يكن لي علاقة بها من قريب أو من بعيد!! بما يؤكد أن الحكم في ظل العسكر لا علاقة له بالقانون ولا تدخل للقضاة فيما يُملى عليهم من أحكام تفرضها الجهات الأمنية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.