شعار قسم مدونات

سعد زغلول.. وتشكيل برجوزاية الاستعمار

BLOGS سعد زغلول

في منتصف القرن التاسع عشر، تحديدا في (يونيو/حزيران) 1859، في قرية "ابيانة" محافظة الغربية ولد سعد إبراهيم زغلول، كان والد سعد زغلول الشيخ إبراهيم زغلول شيخ البلد في قريته، وكان يملك وحده أكثر من 200 فدان من الأراضي الزراعية، بالإضافة إلى امتلاك عدد من أفراد عائلته الكبيرة تقريبا مثل ما يملك والد سعد من أراضٍ زراعية.

 

وفي السابعة من عمره ذهب سعد كغيره من أبناء جيله إلى الكُتّاب حيث قضى خمس سنوات يحفظ القرآن ويتعلم القراءة وقواعد اللغة العربية والحساب، وفي عام 1873 ذهب سعد إلى القاهرة ليدرس في الأزهر، وقت وصول سعد إلى الأزهر كانت القاهرة والأزهر نفسه يشهدان حراكا سياسيا وثقافيا، فقبل سنتين من هذا التاريخ كان جمال الدين الأفغاني قد وصل إلى القاهرة، وبعد فترة من النشاط السياسي تم منعه من التدريس في الأزهر بسبب مواقفه الحادة من التدخل الأوروبي -الفرنسي والبريطاني تحديدا- في المنظومة والسُلطة والحكم في مصر.

 

سعد زغلول وجد ضالّته وإجابات أسئلته عند محمد عبده، وكان زغلول يعتبر الشيخ محمد عبده بمنزلة الأب الروحي والمرجعية الفكرية والسياسية، حيث كان يوقّع خطاباته إلى عبده دائما بعبارات مثل
سعد زغلول وجد ضالّته وإجابات أسئلته عند محمد عبده، وكان زغلول يعتبر الشيخ محمد عبده بمنزلة الأب الروحي والمرجعية الفكرية والسياسية، حيث كان يوقّع خطاباته إلى عبده دائما بعبارات مثل "ابنك" أو "تابعك"
 

بدأ الأفغاني بعد ذلك في عقد سلسلة من الندوات والمحاضرات في بيته وفي الأماكن المفتوحة، وفي تلك المحاضرات، كما في الأزهر، قابل سعد زغلول محمد عبده الذي كان يَكبره بعشر سنوات لأول مرة في حياته.

 

ثورةٌ لم تكتمل

يلاحظ المؤرخ عبد الخالق لاشين من المراسلات بين سعد زغلول ومحمد عبده أن علاقتهما توطدت وتطورت إلى الإعجاب المتبادل في فترة وجيزة، حيث بدا أن سعد زغلول وجد ضالّته وإجابات أسئلته عند محمد عبده، وكان زغلول -يوضّح لاشين- يعتبر الشيخ محمد عبده بمنزلة الأب الروحي والمرجعية الفكرية والسياسية، حيث كان يوقّع خطاباته إلى عبده دائما بعبارات مثل "ابنك" أو "تابعك".

 

ويوضح لاشين أن أول ملمح من ملامح تأثر سعد بعبده كان في تركه للأزهر، حيث كان لعبده موقف رافض بشكل جذري للتعليم الأزهري وطبيعة المناهج المعمول بها داخله، وبعد فترة بسيطة من بدء علاقتهما معا ترك زغلول دراسة الأزهر دون أن يحصل على شهادة، وعمل صحفيا في جريدة الوقائع التي كان يرأسها الشيخ محمد عبده بنفسه.

 

بعد فشل الحركة العُرابية ووقوع مصر تحت سيطرة الاستعمار البريطاني مُنع سعد زغلول من تولّي أي وظيفة حكومية، وتم حل جريدة الوقائع ونفي محمد عبده إلى خارج مصر

في تلك الفترة كانت الحركة العُرابية قد بلغت أوجها، وفي الوقت نفسه كانت هزيمة الحركة شديدة الوطأة على كل مَن عايشها وحضرها خاصة من النخب والمثقفين ورجال الدين الوطنيين، حيث مثّلت الفجوة بين القوة البريطانية وقوة جيش عُرابي والفئات الاجتماعية الشعبية المؤيدة للحركة صدمة لا تقل في تأثيرها عن صدمة الغزو الفرنسي النابليوني لمصر مطلع القرن ذاته.

 

بعد فشل الحركة العُرابية ووقوع مصر تحت سيطرة الاستعمار البريطاني مُنع سعد زغلول من تولّي أي وظيفة حكومية، وتم حل جريدة الوقائع ونفي محمد عبده إلى خارج مصر، وعلى التوازي تم اعتقال سعد زغلول بتهمة تشكيل جمعية إرهابية تُسمى "جمعية الانتقام" المُشكَّلة لمقاومة الاحتلال البريطاني والقصاص للشهداء المصريين الذين سقطوا نتيجة هذا العدوان، ومُعاقبة كل مَن ساعد على دخول البريطانيين إلى مصر وعلى رأسهم الخديوي توفيق. كان عبده هنا بالطبع يدفع ثمن مساندته لحركة عُرابي، وكان زغلول يدفع ثمن صداقته لعبده ومساندته لحركة عُرابي.

 

 

هزيمة مُرّة ثم تحولات اجتماعية وفكرية

يفيدنا الباحث شريف يونس في فهم طبيعة التحول الفكري لدى النخب المصرية حينها بعد انكسار الحركة العُرابية كحركة تحرر ومساواة وعدالة، ووقوع مصر تحت سيطرة قوى الاستعمار، مضيفا أنه كان من أثر الصدمة تغير رؤية محمد عبده ومن ثم تلامذته للعالم، "فقد تبيّن لهم أنه لم تنجح القوى التقليدية في معظم -إن لم يكن كل- بلدان العالم في مواجهة الاستعمار، سواء بالمعنى الضيق (الاحتلال الأجنبي) أو بالمعنى الواسع (التحديث العنيف المفروض من أعلى سواء كاحتلال أجنبي أو استبداد محلي)، فقد انطبق ذلك على القوى التقليدية المسلحة مثل التحالف القبلي الذي قاده عمر المختار في ليبيا أو القوى المجتمعية الأهلية كفلاحين مصر طوال القرن التاسع عشر".

 

ويضيف تميم البرغوثي أن رؤية النخبة الجديدة، خصوصا ذات الأصول البرجوازية الصاعدة مع فشل مشروع محمد علي الاحتكاري، أن مقاومة الاستعمار الأجدى هي من داخل منطق الحداثة والاستعمار وبأسلحة الحداثة نفسها، لأن مفهوم النصر الجديد بات مرهونا بالقدرة على انتزاع الدولة الحديثة بعد تعلم إدارتها وقيادتها على يد مَن اخترعوها.

 

صبغت تلك الرؤية الجديدة تحركات عبده وسعد زغلول بعد الهزيمة، وكانت رؤية عبده بالأساس -وكان سعد زغلول يتبعه أينما ارتحل- هي أن القوى الوحيدة التي تستطيع أن ترث الاستعمار وتستطيع أن تقود المجتمع المصري التقليدي إلى الحداثة هي البرجوازية المصرية التي تشكّلت كنتيجة لمعاهدة 1840 وبعد خصخصة الأراضي المصرية.

 

بسبب ذكائه الخاص ومهاراته في المحاماة والقانون والخطابة بدأ زغلول صعوده الاجتماعي سريعا، وشرع في تكوين أنصار له في طبقته الاجتماعية الجديدة
بسبب ذكائه الخاص ومهاراته في المحاماة والقانون والخطابة بدأ زغلول صعوده الاجتماعي سريعا، وشرع في تكوين أنصار له في طبقته الاجتماعية الجديدة
 

بدأ عبده وسعد زغلول في التركيز على التقرب من طبقة الأعيان وكبار ومتوسطي المُلّاك والباشوات المصريين، حيث كَنّ كل هؤلاء العداء لكل من الخديوي والنخبة التركية المحيطة به وللسلطنة العثمانية أكثر من القوات البريطانية التي استعمرت مصر، بل إن العديد من رموز تلك الطبقة تعاونوا علنا مع الإنجليز في التجارة والسياسة.

 

وبسبب ذكائه الخاص ومهاراته في المحاماة والقانون والخطابة بدأ زغلول صعوده الاجتماعي سريعا، وشرع في تكوين أنصار له في طبقته الاجتماعية الجديدة، حيث انتظم في حضور الصالونات التي أقامها الأعيان ورموز النخبة الاقتصادية المصرية، وتعرّف هناك على نازلي فاضل باشا ابنة عين من أعيان القاهرة مصطفى فاضل باشا، وعن طريق مصطفى فاضل قابل سعد زغلول أهم شخص سوف يتعرّف عليه في حياته السياسية الطويلة.

 

لم يكن هذا الشخص سوى اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر، وبعدها بفترة وجيزة ترقّى سعد زغلول داخل الجهاز البيروقراطي للدولة المصرية فتم تعيينه نائب قاضٍ، ثم قاضيا.

 

يقول زغلول في يومياته: "إن اللورد كرومر يجلس معي الساعة والساعتين، ويحدّثني في مسائل شتى، لكي أتنور منها في حياتي السياسية"، بعد ذلك بفترة بسيطة تزوج سعد زغلول من صفية ابنة مصطفى فهمي باشا والمعروفة في التاريخ المصري باسم صفية زغلول، مصطفى فهمي باشا والد صفية هو أول رئيس وزراء مصري في عهد الاحتلال، وأخلص أصدقاء إنجلترا والاحتلال البريطاني، وقد وثّق زغلول بذلك صلاته بالبرجوازية المصرية المعادية لكل من الخديوي والسلطان والمتحالفة مع اللورد كرومر تحالفا مرحليا، حتى تستلم منه في وقت لاحق قيادة الدولة المصرية الحديثة.

زعيم الشعب أم زعيم البرجوازية؟
يرى تميم البرغوثي أن سعد زغلول كان يجهز البرجوازية المصرية على وجه التحديد من كبار وصغار المُلّاك للتفاوض مع الاستعمار، وعلى هذا بَنى مشروعه السياسي وشكّل تحالفاته وخطابه الوطني

في مذكراته ذكر اللورد لويد، وهو موظف ومدير استعماري بالأساس، أن هناك صفتين أساسيتين في تكوين حياة زغلول السياسية الجديدة بعد خروجه من السجن، الأولى هي تعلمه للفرنسية، والثانية -وهي الأهم- أنه "فلاح ولكن لا يفكّر مثل بقية الفلاحين".

 

تاريخيا لم يكن زغلول فلاحا في يوم واحد في حياته، لا هو ولا أحد من أسرته لعدة أجيال، تحديدا منذ عام 1840 لم يعد أحد من أسرة زغلول ينتمي إلى تلك القوة الاجتماعية التاريخية الممتدة طوال تاريخ مصر الزراعية التقليدية المسماة بـ "فلاحين مصر".

 

يضيف لويد، ويؤيده في ذلك عبد الخالق لاشين، أن دخول زغلول في وزارة المعارف وتعيينه في السلك القضائي وتدرجه وصعوده السريع كان جزءا من خطة أوسع لكرومر استفاد منها زغلول نفسه فيما بعد، خطة كرومر كانت تقتضي إدخال الفئات الاجتماعية من السكان المحليين التي استفادت من انهيار مشروع محمد علي الاحتكاري للأراضي الزراعية وتملّكتها لنفسها بعد خصخصة الأراضي بإشراف إنجليزي-فرنسي إلى الحكومة وتمكينهم من الجهاز البيروقراطي للدولة والجيش، أي إدخال الفئة الأكثر استفادة من المشروع التحديثي الرأسمالي الاستعماري والمعادية بحكم الموقع الطبقي والاقتصادي للسلطنة العثمانية وللخديوي ولعائلة محمد علي إلى موقع الصدارة السياسية.

 

لم تكن تلك الفئة من الفلاحين بالمعنى المعروف، لكنهم كانوا مصريين لديهم مقدرة على تنظيم أنفسهم والتحدث باسم الأغلبية من المصريين. فالزعم الذي أورده لويد هنا بأن سعد زغلول وطبقته من الفلاحين كان جزءا من الخطاب الاستعماري الذي يختار مُمثّلين عن الناس يتكلّمون باسم أغلبيتهم، بالذات لأنهم لا يُمثّلون تلك الأغلبية تمثيل مصالح مادي وفعلي.

 

نجاح سعد زغلول أتى لأنه استطاع تمثيل تلك المفارقة، بقبوله لمنطق الاستعمار السياسي أولا المعادي للسلطنة وللخديوي وللتنظيم المجتمعي التقليدي، وبكونه -وهو الأهم- واحدا من المصريين يستطيع التحكم والتفاوض مع الفلاحين نفسهم كمصري وليس كمستعمِر إنجليزي.

 

على خلاف لطفي السيد فإن سعد زغلول لم يكتب كتبا في الفلسفة السياسية وأغلب آرائه مُوزّعة في خطبه ويومياته التي دوّنها. حيث يرى تميم البرغوثي أن سعد زغلول كان يجهز البرجوازية المصرية على وجه التحديد من كبار وصغار المُلّاك للتفاوض مع الاستعمار، وعلى هذا بَنى مشروعه السياسي وشكّل تحالفاته وخطابه الوطني.

 

تلخّص مشروع سعد زغلول في الاستفادة والتعلم من الاستعمار، ثم التفاوض معه والحلول محله، والضغط عليه في سبيل إتمام ذلك إن لزم الأمر
تلخّص مشروع سعد زغلول في الاستفادة والتعلم من الاستعمار، ثم التفاوض معه والحلول محله، والضغط عليه في سبيل إتمام ذلك إن لزم الأمر
 

مضيفا أن سعد قد قَبِلَ بشكل واضح بالتعريف الاستعماري لمصر المخلوقة خلقا في معاهدة لندن في عام 1840. واستفاد سعد زغلول في مشروعه من التوجه البريطاني بإدخال المصريين من غير الأتراك إلى النخبة السياسية والاقتصادية والتعيين داخل جهاز الدولة، كما أن صداقته بالإنجليز وعلاقته الجيدة باللورد كرومر وتلمذته على يد الشيخ محمد عبده بالإضافة إلى علاقة المصاهرة التي ربطته بمصطفى باشا فهمي مكّنته من حيازة موقف تفاوضي وتمثيلي للبرجوازية المصرية أمام الاستعمار.

 

تلخّص مشروع سعد زغلول في الاستفادة والتعلم من الاستعمار، ثم التفاوض معه والحلول محله، والضغط عليه في سبيل إتمام ذلك إن لزم الأمر، فقد سجّل زغلول في يومياته خلاصة آرائه قائلا: "إن الوجود الاستعماري ضروري لتحسين الثقافة السياسية المصرية، إن المستعمر، وهو المعلم الوصي، هو الضمان الوحيد ألا تقع هذه البلاد في الطغيان القديم، إن الأمة المصرية لا يمكنها -وحدها- أن تحفظ الهيئة العامة النيابية، إنها لو كانت خالية من الاحتلال الأجنبي سَهُل على حاكمها أن يستبد فيها".

 

وحينما كان زغلول وزيرا للمعارف كان رده على المعارضة التي قابلها لبعثة الطلاب إلى إنجلترا للدراسة دالا، ففي مقابلة مع جريدة المؤبد في 27 (مايو/أيار) 1907 أوضح قائلا: "أرسلت الطلاب إلى بريطانيا لأنني أرى أنه يلزمنا أن نتعلم على يد الذين ارتبطت مصالحنا بمصالحهم، ولا فائدة لنا من البعد عنهم بوجه من الوجوه، وكلما اختلطنا بهم وتعلّمنا علومهم وصنائعهم أمكننا التعاون معهم على خير بلادنا، وكل فكرة غير هذا مخالفة في رأيي لمصلحة الأمة، ولا يسوغ لنا بعد ذلك أن نُكلّف الإنجليز أن يربونا تربية أعلى من تربيتهم أو مضادة لها، لأنه ليس هناك ما هو أعلى منها كما أظن".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.