شعار قسم مدونات

كَيْفَ أَكتُبْ؟

مدونات - كتابة الكتابة book books writing

كثيراً ما أتصادَف بمثل هذه الأسئلة على مواقع التواصُل الاجتماعي: كيْف أكتُبُ مقالاً حُرًّا أُطلق فيه العنان لآرائي؟ كيْف أَكتُبُ خاطِرة؟ كيْف أَكتُبُ قصيدة؟ كيْف أَكتُب رِواية؟ حقيقة الأمر مُثير للتعجب! في نواحي مُعيَّنة، قد يكُون من السهل كِتابة مقال رأي حوْل قضِيَّة اجتماعية، تجرُبة ما، لكن نصيحة قدمتُها لنفسي مراراً قبل أن أُدوِّنها ها هنا: "لا تُقحم نفسك في مقالات الرأي السِياسية حتى لوْ كانت ذات طبيعة ساخِرة، التحليل السياسيّ صعبٌ جِداً"، مثلاً أنا درست عشر سنوات في ذاتِ المجال، ولا أزال في طورِ التدرُّب على التحليل المُباشر حتى لوْ كان على الورق، يجب أن تُدرك أهميَّة رأيِك، إذ سيبقى مُدوَّناً حتى بعد رحيلك، فحذار أيُّها الكاتِب من التهوُّر، تنجرِف وراء الشُهرة حتى يُقال فُلانٌ صرَّح، فُلانٌ جريء… الجُرأة لا تعني دائماً أنَّك على حق، كما لا تعني أنَّك مُمَيَّز ، وليْست خالِف تُعرف سارية المفعُول في كلِّ زمكان.

جميلٌ أن يكون لك رأي، تُحسّ بأنَّك ذو فائدة في شيءِ ما، وكأنَك تسقي شَغَفك، قد يُراودك شُعور بأنَّ كلماتك حُرّة، بإمكان أي شخص في هذا العالم أن يتمعَّن فيها، ويناقش أفكارك، لكن وجب أن تكون شُجاعاً لأجل أن تتقبَّل آراء الرافضين لما بُحت به على الورق، ليْس من السهل أن تكون كاتباً، حتى كبار الكُتَّاب في العالم، كانوا يخجلون من وصف أنفُسهم بذلك بل كانت كلماتهم على مدى أجيالٍ وأجيالٍ شاهدة عليهم لِذا حضنتهم رفُوف التاريخ، وباتت أفكارُهم مَرجعاً ذا أهمية، لا تستعجل ظُهورك، فما يأتي بسُرعة يخِّفُ وهجه بلمحِ البصر، إلاَّ إن كان مُميَّزاً جِداً "نابغة عصره".

متى نتعلَّم أن حريتنا تنتهي عند خُصوصيات غيرنا، متى نتعلَّم أن نهتم بشؤونِنا، ولا نتطفَّل على أخطاءِ غيرنا، من منَّا خالٍ من العُيوب، لا يُوجد كلُّنا لنا هفوات، نحن نتعلَّم حتى آخر نفسٍ لنا
متى نتعلَّم أن حريتنا تنتهي عند خُصوصيات غيرنا، متى نتعلَّم أن نهتم بشؤونِنا، ولا نتطفَّل على أخطاءِ غيرنا، من منَّا خالٍ من العُيوب، لا يُوجد كلُّنا لنا هفوات، نحن نتعلَّم حتى آخر نفسٍ لنا
 

"النجاح يأتي تِباعاً، كما الطبخَة التي تُطهى على نارٍ هادئة، دون أن ننسى استثناء الطَبخات التي تحتاج ناراً مُتوهِّجة، كذلك بعضُ المواهِب استثناءْ لا يُمكن تعمِيمه والقياس عليه دائمًا". ما يستفز العقل ذاك الذي يضع نفسه خبيراً في كلِّ شيء، أيْن تدور تجده يتكلم، كعقارِب الساعة لا تترُكُ اتجاهاً، نحن نُحاول تشجيع كُلّ شخص يُريد أن يُجرِّب، لا علينا فالكتابة في الأدب تحتاجُ موْهِبة، إذ لا يُمكن لأحد أن يعطيك وصفة ناجِعة كي تَكتُب قصة وأنت لا ترقى لأن تكتبها، حاوِل فقط أن تتقبَّل أنَّك لست بميزانِ الأديب، لِمَا تُحمِّل نفسك فوق اهتِمامِها، قد تجد ذاتَك في مكانٍ آخر، ابحث عن موْهبتك فيما تكمُن، لا تُحاول أن تُقلِّد أحداً أبداً، وكما قُلتها وأُكرِّرُها: "كُن أنت وكفى"…

الظاهرة التي أود التعريج عليْها هي آفة الاستهزاء المُنتشرة بكثرة، ما شأنُك أنت بفُلان، ألَّفَ كِتاباً وهذه بدايته، لديْه موْهبة، مُستواه اليوْم ضعِيف، غداً سيتحسن وبعد غد يتطوَّر أكثر فيُصبِح جيِّداً: "قرأت من شُهور في تعليقٍ ساخِر لٍشخصيْن يتبادلانِ الاستهزاء بمن يكتُبون الخواطِر، قال أحدُهم عاديّ أي شخص باستِطاعتِه التعبير عمَّا يجول في خاطره، ليْس فيها ما يدعو إلى ضمِّها في كتاب، ردَّ عليه الآخر قائلا: أُمِي يُمكنها أن تكتُب خاطرة حتى لوْ كانت غير مُتعلِّمة".

للأسف شباب يتكلَّم وفقط من أجل أن يتكلَّم عبثاً، حسناً فلتكتُب أنت خاطِرة، وأُجزم بأنَّها ستكون كتعبير كِتابيّ لطفل في أولى ابتدائي، أوَّل مرة يُعبِّر في حياته، طلب منه المعلِّم أن يصِف عُطلة نهاية الأُسبوع في سطور، لكن على الأقل الطِفل بريء ليْس له قصد، كفاكم استهزاءً، كلّ شخص حُرّ، هو طبع كتابه وأنت لست مُجبراً على اقتنائه والنبش في جوانِبه اِنصحه بلباقة أو أغلق فمك.

نحن نتراجع كلَّ يوْم عشر خطواتٍ إلى الوراء، لأنَّنا نعمل على تحطيم غيْرِنا، وذاك البائس يرحلُ إلى زاويةٍ مُظلمة ويجلدُ ذاته، يرتشِفُ كأس الفشَل وهو لم يُجرِّب الكفاح من أجل هدفه بعد

متى نتعلَّم أن حريتنا تنتهي عند خُصوصيات غيرنا، متى نتعلَّم أن نهتم بشؤونِنا، ولا نتطفَّل على أخطاءِ غيرنا، من منَّا خالٍ من العُيوب، لا يُوجد كلُّنا لنا هفوات، نحن نتعلَّم حتى آخر نفسٍ لنا، ولا يصِّح أن نتفاخر بما وصلنا إليه: "فالمعرفة كالمُحيط كُلَّما غُصت في أعماقه أكثر اكتشفت مدى جهلك"، ليتنا نرتقي بأفكارِنا، نُقدِّم نقداً بناءً بدل أن نكِسر طُموحاً ما، نُقَدِّم نصيحة مُغلَّفة بالاحترام للشخص مُنفرداً، بعيداً عن إبراز أنفُسنا كأبطال أمام النَّاس، بأنَّنا صفحة بيْضاء خالية من الأخطاءْ.

 

لأجل ذلك نحن نتراجع كلَّ يوْم عشر خطواتٍ إلى الوراء، لأنَّنا نعمل على تحطيم غيْرِنا، وذاك البائس يرحلُ إلى زاويةٍ مُظلمة ويجلدُ ذاته، يرتشِفُ كأس الفشَل وهو لم يُجرِّب الكفاح من أجل هدفه بعد، لماذا؟ لأنَّ فُلاناً وضع نفسه نابغة عصره، نصحه أمام الجُمهور الواسع بأنَّه لا يليق كذا وكذا، وهو في الأصل حطَّمه، نخَر فيه جُرحاً قد لا يُشفى منه.

كيْف أكتُب؟ جوابُها بسيط، لا تتسرَّع، أُكتُب ما يخرج من قلبِك، ما يتدبَّره عقلُك، لا تُقلِّد أحداً حاول أن تجِد نفسَك، لا أن تُهرول وراء غيْرِك، عالم الكِتابة واسِعٌ جِداً، فإن كان شغفُك بها فأطلِق العنان لسُطورك، وتأكَّد أنَّك ستتعلم من عثراتِك، كُلُّنا نفشل، لكن لابُدّ من الوقوف مرَّة أُخرى، فاجعل سُطورك حُرّة بالقيم الراقية، ولا تُقيِّدها باتهامِ النَّاس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.