شعار قسم مدونات

هل مطلبا الحرية والتنمية متلازمان؟

blogs الحرية

عند الحديث عن قضية الحرية تتقافز إلى الذهن فورا صور النضال الذي سجله التاريخ منذ بداية الثورة الفرنسية، تلك الثورة التي وثقت لأول فصام بين العالم القديم والعالم الحديث؛ العالم القديم الذي كان الحكم العضوض سائدا فيه وحاكم البلاد وسلطانها هو كل شيء فيها: مالكها وراعي الكنيسة وكبير القضاة وخليفة الإله في الأرض، باختصار هو كل شيء فالشعب يفنى في سبيل الحاكم وكانت كل الدنيا آنذاك تحوم حول الملك الشعر والثقافة والأدب وحتى العقائد. كل شيء حتى بلغ وصف الإمبراطور في بلاد اليابان بنصف الإله.

 
والغريب الذي يجدر ذكره هنا أنه رغم الفصام الذي حدث والصراع الذي تم فإن الحرية لم تكن مطلبا آنذاك ولم تكن الرغبة فيها سببا محوريا في ذلك الفصام وتلك الثورة، فالذي سجله التاريخ أن الثورات بدأت شرارتها بمطالبات أساسها ضيق الرزق وعنت المعيشة ثم تطورت بعد عناد السلطان وقمعه لمطالب الحرية.

 
والمتتبع للتاريخ يسأل دوما: هل فعلا الشعوب تسعى نحو الحرية أم أنه ضيق العيش أفرغ الغضب في الشوارع والميادين؟ ففي الدول الغنية الملكية -حتى اليوم- تندر الثورات الشعبية بل تكاد تكون منعدمة وليس ذلك إلا لمستوى الرفاه الاقتصادي الذي بلغته تلك الشعوب والتوزيع النسبي -الشبه عادل- للثروة، ذلك التوزيع الذي عصم السلطات من مغبة تفريق حشود الغاضبين. فهل مطلب الشعوب هو الحرية حقا؟ أم أن طلب الرزق يحتل الصدارة؟ أو بتعبير آخر: أيهما أولى الحرية أم التنمية؟

 
الحرية كمطلب سامي لا يحمل همه -في الغالب- إلا المثقفين الذين يعتبرون دوما قلة بالنسبة لتعداد الناس؛ ولذا بقدر زيادة الوعي والثقافة في أوساط الناس زادت حصة الحرية ضمن مطالبهم. التنمية أيضا وبلوغ الرفاه الاقتصادي وخروج أغلب الناس من دائرة الفقر وبلوغ معظمهم حد الكفاية يعزز من دور الثقافة والفنون والذي بدوره يعزز من ظهور قضية الحرية ضمن المطالب الشعبية وإن كان ذلك بصورة أقل.

 

undefined

 

قد يتبادر لذهن القارئ سؤال محوري وهو: هل كل الطرق فعلا تؤدي للحرية؟ الإجابة حتما لا …
فالحرية كمطلب لا تنال بالوعي بأهميتها فقط ولا حتى بالإعداد لها، فالتاريخ يحدث دوما عن شعوب كانت قمة مطالبها تخفيض ضريبة الشاي -كشعب الولايات المتحدة- فتطورت تلك المطالب بفعل تعنت السلطة إلى طلب للتمثيل في البرلمان تحت شعار "لا ضرائب لبلا تمثيل" وأدت فيما بعد لحرب الاستقلال.

 
ويقص التاريخ أيضا عن شعوب واعية خرجت مطالبة بحريتها فلم تنلها حتى ارتدت عليها خرابا واستبدادا جديدا وبعد خفوت نجم قيصر ظهر قيصر جديد والأمثلة على ذلك أكثر من أن يتم ذكرها هنا. انتشار الوعي -في ظني- قد يكون سابقا للمطالبة بالحرية ولكنه لن يكون بالضرورة السبب الرئيسي لبلوغها.

 

وتظل التنمية وتوفير معينات العيش الكريم هي مطلب غالب الشعوب عامتها ومثقفيها؛ فهل تأخير الحرية لحين تحقيق حد أدنى من التنمية أولى وأفضل؟ أم أن الحرية مقدسة ويجب أن تسبق كل مطلب؟  كلها أسئلة مشروعة والإجابة عنها مهمة لفئة المثقفين الذين يقع على عاتقهم مستقبل البلاد ومصير العباد.

 
تحتاج الإجابة على هذه الأسئلة إلى عصف ذهني متكرر وبحث دائم وعميق وقراءة للواقع بحكمة وتدبر، فخراب الأرض والديار مكلف وإهدار الموارد والأوقات والدماء في مجهود لا طائل منه لا يخدم الحاضر ولا يصنع المستقبل. فيكفي العالم ما سفك من الدماء ويكفي العاقل ما حدث من عبر ودروس كي يستبين طريقا آخر أقل تكلفة وإن كان طويلا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.