شعار قسم مدونات

عندما يمضي العمر بعيدا عن "أبي"

blogs - father daughter dad

قد نختلف في تعريفنا للمصطلحات الأكثر انتشارا بينا.. قطعا نختلف كما تتبدل الأحاسيس فينا وبيننا، فما أشعر به من "غربة" رافقتني منذ سن العشرين لا تختزل حتما ما تعنيه للبعض "الغربة"! شتان بين غربتين: "غربة" تصف شوق الأوطان والحنين للأهل والأصدقاء، ألم يمحوه مع مر الزمان القليل من رفاه العيش وحفنة نقود وجاه وسفرات بين شواطئ لوس أنجلس والجزر العذراء! و"غربتي" بدأت في وطني وحملتُها معي إلى أوطان أخرى لا يعنيها لا المكان ولا الزمان ولا تَمحو الأموالُ آلامها.. فـ"غربتي" قطعت بيني وبين أشيائي الجميلة، غربتي بدأت في وطني عندما سحبت مني قصرا "أبي" أطال الله في عمره.. فعندما يمضي العمر بعيدا عن "أبي".. تلك حتما غربة أقسى وأعنف وقعا في النفس والروح.

 

اشتقت تقبيلك يا أبي.. زاد شوقي إلى حضنك الدافئ وكلماتك الجميلة، تأخذني الحياة بصخبها وغضبها، بخصبها وقحطها، بنبضها وركودها، بزهورها وأشواكها ترحل بي دون أن أدرك سرعة الزمن فيها وكيف تدور عقارب الساعة أحسبها فأعدها فأحصيها أياما باتت سنوات وكأني بها حلم طال دون انتباهي.. نعم ابتعدت عنك يا أبي في العشرين من عمري أولا للدراسة، ثم ابتعدت عنك للزواج. وزاد ابتعادي وتعمقت غربتي بعد انجابي لأطفالي.. وقد ابتعدت بذلك عن جميع أغراض الطفولة وذكرياتها الجميلة وأنت من بين الأجمل فيها. يحن القلب وتحن المخيلة إلى لحظات عشق وجنون أذكر منها ما أذكر في صمت وفي عجز وفي غربة!

 

أصطدم بجنون البشر يا أبي، يرافقني حزن دفين لا يفارقني.. علني لا أدرك السبب الحقيقي لأحزاني لكني أدرك جيدا أنها تلازمني كما يلازم الرضيع أمه.. تأخذ مني الذكريات جزءا من الألم وتعطيني أملا -أمل وحلم يراودني بين الحزن والحزن.. علني أقبلك قبلة صادقة كما أفعل في كل مرة أغادرك فيها- في بهو المطار من هناك من حيث تقلع الطائرات وتنقطع معها أنفاسي. تلك اللحظات لا أحبذبها بل وأنبذها يصطدم فيها الطموح بذكريات الطفولة ويصطدم الواقع بالغريب والوعي باللاوعي ولا أرى سواك أنت يا أبي.. يرتجف قلبي في تلك اللحظات وتعجز الكلمات بل وتختنق العبرات حتى الدموع تستحي ثم تتدفق كشلال مياه تحكي ألما وحبا وغرقا في طفولة لم تغب ولن تمحي تلك الدموع يا أبي تراودني وترافقني وتزورني وتعاودني فأنا في غربة ليست بغربة الأوطان بل أقسى منها وأشد!

 

ليست الغربة غربة الأوطان؛ إنما الغربة يا سادة بعدٌ عن الأب والأم وتلك غربة أشد عنفا وقهرا تغتصب الشباب فينا وتطعمنا شيبا وإن لم يكن الشيب عيبا! غربة الأوطان قدر وغربة الأحبة قهر يدفن الروح بين ثنايا الذكريات الحزينة.

   

تذكرني اللحظات الجميلة بغربتي، كما تذكرني المواقف القاسية فيها وألعن الفرح كما ألعن الأحزان عندما أكون في غربتي!
تذكرني اللحظات الجميلة بغربتي، كما تذكرني المواقف القاسية فيها وألعن الفرح كما ألعن الأحزان عندما أكون في غربتي!
  

سأحدثك يا فارس أحلامي، يا بطلي يا وطني يا أملي ويا نور دربي.. أحدثك بما لم تقله الأشعار والقصائد والحكم والكتابات الموزونة تمجيدا ومدحا وتكريما.. فأنت ترافقني دون أن تعلم، ترافقني مع وسادتي، مع النظارات، مع كتب الرياضيات ومع الموسيقى التي أحب.. ترافقني مع أشرطة نجاة الصغيرة ووردة، مع عطر الياسمين، مع الزهور، مع الألوان الجميلة، ومع أطياف البساتين والحدائق التي تعشق وأعشق.

 

يا أبي.. ألم يحن لغربتي أن تنتهي ألم يحن لبعدك عني أن ينتفي.. تمنعني دروب الحياة عنك، وتصحبني ذكرياتنا الجميلة إليك في كل يوم وفي كل شهر.. بل وفي كل فصل من فصول العام..  ألم أحدثك عن عشق أبنائي لاحتساء قهوتك وحبهم أجود ما تطهو! لكن ذلك يشعرني بالغربة أكثر.. فغربة الأحبة يا سادة أخطر وأقسى من غربة الأوطان. تذكرني اللحظات الجميلة بغربتي، كما تذكرني المواقف القاسية فيها وألعن الفرح كما ألعن الأحزان عندما أكون في غربتي! فأنا أكبر يا أبي وتكبر فيَا الغربة، وتكبر معي آلامها ومعاناتها: عندما أبدع أذكر غربتي وبعدي عنك، وعندما أتألم أذكر غربتي وبعدي عنك وعندما يكبر أطفالي بعيدا عنك أذكر غربتي فيك… يسألونني عنك كل يوم وتلك غربة أخرى.. فهل الغربة وطن بعيد أم الغربة حبيب بعيد؟!

 

متى سهرتُ الليالي، كنت يا أبي الرفيق ومتى ابتسمت وتقاسمت ساعات الفرح ومناسباته، كنت أنت الأنيس والونيس لكن دربي مع الغربة طويل ومضن حين لا تراني ولا أراك.. لست غريبة في البعد عنك ولم أعد كذلك بل أنا الغربةُ بآلامها وأحزانها وبفراق الأحبة فيها. أحاول بالكلمات المسترسلة المتجانسة المترادفة المتدفقة في عمق الليالي أن أستعيد زمانا وعمرا قد مضى وانقضى لكنه محفور في القلب والذاكرة تأبى النسيان… كيف أنسى وماذا أنسى؟

 

هل أنسى سهراتنا الجميلة الهادئة على إيقاع أجمل الأسماء.. هل أنسى قهقهاتنا الخافتة الذكية الهامسة بالحب والحنان.. هل لنا يا أبي أن ننسى العمر وأنت في القلب عمرٌ.. هل أنسى روحا وفيضا وحكمة ورقيا ونضالا وتعبا واجتهادا وألما وأحلاما وطموحا وشجونا وعشقا وحرية… وكلها تختزل العمق فيك يا أبي.. تلك الكلمات بعبثها وانتظامها تارة وتشابكها طورا، تشبهك كثيرا في خصالك وصفاتك تماما كما تشبهك الأيام في مرحها، وتشبهك لحظات الفرح وهمسات الشوق والصباحات الجميلة مع القهوة! عشقي فيك وحبي لك ليس الا قدرا محتوما مكتوبا يا أبي…حتى أطفالي يتقاسمون معي هذا العشق المثير فينا العميق الثائر الحاسم المغترب معنا! لا يشبهونني كثيرا أبنائي لكنهم حتما يشبهونك أكثر وقد عشقوا طيفك حتى أصبحتم تتشابهون في الخطوات والكلمات واللمسات والابتسامة الدائمة!

 

البعد عنك يا أبي صنع فيَّ غربة لا تعريف لها إلا في قواميس العشق والشعر وفي قصائد قباني والمعلقات
البعد عنك يا أبي صنع فيَّ غربة لا تعريف لها إلا في قواميس العشق والشعر وفي قصائد قباني والمعلقات

 

أبي، أنت عمري وأنت دموع الغربة فيا تلك الدموع التي لم تفارقني منذ العشرين من عمري، تلازمني تراودني لا تهجرني كما أني أرفض هجرها فهي متنفسي وهي طاقتي وهي انفلاتي حين تأسرني الحياة.. كما أنت الطاقة التي تدفعني، والأمل وشمس النهار في غيمة أجوائي.. لا يرون مني إلا لحظات الجمال، والقامة الهيفاء وتلك الجفون المتعالية المغردة فوق السحاب رغم الأحزان تلملم سوادا أعظم وذلك الفستان الأحمر الخجول من نظراتك وتجاعيد الحب حول عينيك.

 

حركاتي وسكناتي، وإيقاع الحياة في بيتي أستلهمه منك ومن أيامنا المشتركة التي لا أذكر منها إلا غربتي وبعدي عنك يا أبي! غربة صامدة قوية صادمة تأسرني تلازمني تحرقني ولا تودعني.. فالغربة في البعد عن الأحبة نار حارقة.. في الغربة عن الأوطان كتب الأدباء وتشارك المغردون ونظم الشعر كلمات ليست كالكلمات… لكنهم تجاهلوا غربتي وبعدي عنك يا أبي!

 

أحتار ويحتار قلمي كما تحتار الكلمات بين أسطر الكتابة لا أجد وصفا لما يختلج في الوجدان عميقا قويا صاخبا مغتربا مقهورا رافضا معتلا مكسورا مقهوار.. شعوري قاتل ظالم مغترب! فالبعد عنك يا أبي صنع فيَّ غربة لا تعريف لها إلا في قواميس العشق والشعر وفي قصائد قباني والمعلقات.. يتحدثون عن غربة الأوطان.. ولا يعلمون أني أكتب في البعد عنك أشعارا وخواطر وقصائد تروي عطشي وتسقي بالدمع صمتي المطبق والغريب والكل غريب في الغربة! أخجل من صمتي في الحديث عنك وعن غربتي منك! فلا الصمت يحكي ألمي ولا الكلمات تلملم جروحي لكن الكتابة عنك والتحدث إليك غيبا والحديث في حضرة وجودك الغائب الهائم، مرح وأمل وحلم جميل صادق.. فوجودك معي هو غايتي وكل ما أريد حتى أنفي الغربة من قاموسي.

 

لطالما قال الشعراء في الآباء أعظم القصائد والأشعار، لكن بعد موتهم! إلا أنا… سأكسر قواعد الألم وسأعزف عزفا منفردا في حضرتك يا أبي فأنت فريد بين جميع الآباء أو على الأقل فليسمح لي الآخرون أن أرى أبي كائنا لا شبيه له.. ينفرد في ذاكرتي وبين ثرايا الأحلام الجميلة والطموح والثروات.. أبي ينفرد حتى بكلماتي الجميلة المختارة المنتقاة حرفا حرفا كما قطرات الحب في بحر العشق من دواوين كبار الشعراء.. يعتذر القلم من أمي، حتى لوحة مفاتيح حاسوبي يسودها الخجل من صدق كلماتي فتخبرني اللحظات أنك يا أبي تلخص رحلة ومرحلة ومسيرة وخطوات بين النجاح والثبات على إيقاع الطموح والشموخ في حضرة الفاتنة الميمونة الراقية القوية الفياضة التي أنجبتني من بحر هادئ معتدل دافئ أمواجه عزة وشموخ وعظمة.. أبي!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.