شعار قسم مدونات

البعد العلماني في قصة طالوت

blogs - ناس في الشارع

لا مناص أمام غير العلمانيين من التمييز بين حقيقتين ظاهرتين، الأولى تسمى الدنيا والأخرى تسمى الدين. وهذا التمييز هو الخطوة الأولى والضرورية في الطريق إلى الاعتراف بالعلمانية، أيا كانت حدودها ومعانيها. وبناء على هذه الضرورة يمكننا القول إن العلمانية، في معناها المعجمي البسيط، هي كل ما ينتمي إلى العالم ولا ينتمي إلى الدين والآخرة. فالفنون والرياضات، مثلا، هي ظواهر علمانية لأنها تنتمي إلى العالم، ولا تنتمي إلى الدين والآخرة. والعلاقة بين الدين والدنيا بالطبع ليست علاقة تناقض وتضاد بل علاقة تجاور وتكامل.

 

بناء على هذا الفهم يمكننا القول بوجود نوعين من المعايير في تقييم الأفعال والأشخاص: المعايير الدينية والمعايير العلمانية. وعلى سبيل المثال فإن معايير تقويم الفن الروائي غير معايير تقويم الفعل الصالح من وجهة نظر الدين. فالرواية الجيدة في عرف الفن القصصي ليست الرواية التي تتوخى قول الحقيقة الواقعية، بل هي تلك التي تتوفر على الشروط الخاصة بفن القص. واللاعب الجيد في كرة القدم ليس ذلك الذي يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويحج البيت، بل ذلك الذي يتمتع بمواصفات بدنية ومهارية تناسب وظيفته. فمعايير الرياضة بالضرورة معايير علمانية.

 
وتبدو قصة طالوت، كما رواها القرآن والتوراة، مثالا طريفاً على حقيقة تمييز الدين نفسه بين ظاهرتي الدنيا والدين. أي على اعترافه بمستوى من العلمانية. حيث يخبرنا النص الديني بأن الله قد رشح لوظيفة الملك والرئاسة في بني إسرائيل شخصاً منهم، بمعايير دنيوية علمانية لا بمعايير دينية. فعلى الرغم من وجود النبي صاموئيل في أوساطهم إلا أن بني إسرائيل لم يفكروا في تنصيبه ملكاً عليهم. بل طلبوا منه أن يدعو ربه ليبعث لهم ملكاً بمواصفات جالوت الفلسطيني. وكأنهم يميزون تماماً بين وظيفة النبوة ووظيفة الملك والرياسة، فما كل نبي يصلح للملك.

 
وقد جاءت الاستجابة الإلهية لتؤكد صحة هذا التمييز، فلم يقل الله لهم: كيف تطلبون ملكاً كطالوت وفيكم نبيين كريمين هما صاموئيل وداود؟!، كيف تقيمون الشخص الصالح لوظيفة الرياسة بمعايير دنيوية خالصة، كمعيار الضخامة والفخامة وسعة المال، وتتجاهلون معايير الدين كالتقوى والأمانة والصدق؟ لم يقل ذلك بل استجاب لطلبهم وفقاً لأحد معاييرهم، وهو البسطة في الجسم كجالوت، وأضاف إليه، من باب التعليم، معياراً دنيوياً علمانياً آخر هو البسطة في العلم، واستبعد معيار الثروة. وكأنما يقول لهم إن منصب الرياسة والمسئولية يحتاج إلى العلم أكثر من حاجته إلى الجاه والقوة البدنية التي تطلبونها، أو بجانبها على الأقل بالنسبة لزمانهم "وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"، البقرة 247.

 

اعتقاد البعض أن الدين يلغي الدنيا. هو فهم ناتج عن ارتهان العقل الإسلامي إلى المنطق الأرسطي العقيم الذي ظهر في القرن الثاني الهجري بين المسلمين
اعتقاد البعض أن الدين يلغي الدنيا. هو فهم ناتج عن ارتهان العقل الإسلامي إلى المنطق الأرسطي العقيم الذي ظهر في القرن الثاني الهجري بين المسلمين
 

والاعتراف بوجود شخص يمتلك بسطة في العلم بجوار أنبياء مرسلين هو بعد آخر من أبعاد الظاهرة العلمانية في القرآن والدين. فالقرآن لا يتبنى الصورة المثالية الزائفة للأنبياء كما يجسدها المخيال الشعبي والفقهي، حيث يظهر النبي وكأنه الكمال المطلق الذي لا يدانيه بشر. وإنما يطرح فكرة الكمال النسبي. أي الكمال المناسب لأداء الوظيفة النبوية. وليس من شروط النبي أن يكون الأعلم والأحكم على الإطلاق. كما تقول قصة موسى مع العبد الصالح المجهول على سبيل المثال أيضا.

 
ربما قال أحدهم، على سبيل الشغب، إن آية "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ" تنقض ما ذهبنا إليه، وتدل على بعد ديني في المسألة! وهذا مجرد وهمٍ يشبه الوهم الشعبي حول قوله تعالى في آل عمران "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ". حيث يعتقد البعض إن الله يهب السلطة والملك لمن يحب ويرضا. وهذا فهم سقيم عقيم لا يستحق الرد لأن الواقع المشاهد يرده خائباً، إلا إذا كان الله فعلا يحب طواغيت العالم ومستبديه، من نيرون وكاليجولا إلى موسيليني وبشار.

 
إن مفهوم الاصطفاء هنا أيضاً مفهوم علماني قدري لا علاقة له بالمفهوم الديني الذي في أذهان البعض. فلو أن اختيار طالوت كان لدواعي دينية ما انتظر حتى يطلبه بنو إسرائيل. إننا أمام حالة علمانية واضحة في دواعيها ومعاييرها، يبسطها أمامنا القرآن لكيلا نقع في الخلط بين المقامات المختلفة. لأن الخلط بين المقامات سيؤدي إلى ما نحن فيه اليوم من عجز واضطراب وخراب. والذين خلطوا بين مقامات النبي محمد عليه سلام الله هم الذين حولوا التاريخ إلى نص ديني، وأدخلوا المدنس في المقدس، فأوقعوا الناس وأنفسهم في مظنة الشرك من ناحية، وأسهموا في تزييف الوعي الإسلامي من ناحية ثانية. كان من نتائجه هذا الشرخ الكبير والخطير في المجتمعات الإسلامية بين العلمانيين والإسلاميين.

 
ومن الفهم السقيم للقرآن اعتقاد البعض أن قوله تعالى في سورة الأنعام "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ". اعتقادهم أن هذه الآية تصادر ظاهرة الدنيا وتلغيها ليبقى الدين وحده. وهو فهم ناتج عن ارتهان العقل الإسلامي إلى المنطق الأرسطي العقيم الذي ظهر في القرن الثاني الهجري بين المسلمين. وهو المنطق الذي لا ينسجم تماما مع منطق اللسان العربي، كما حاول النحوي الذكي أبي سعيد السيرافي أن يقول في مناظرته مع متى بن يونس المتأثر بالمنطق الأرسطي. والحق إن عدم فهم المسلمين لأبي سعيد السرافي قد ألحق بهم الكثير من الضرر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.