شعار قسم مدونات

الرقة في الوداع الأخير

blogs - syria

مدينتي الصغيرة الغافية على ضفاف الفرات أخذها الغياب لعقود وأخذني الغياب عنها وهي مسقط قلبي، أذكر كيف ارتديت ملابسي على عجل لم أرتب سرير كالمعتاد ولم ألتفت لأدراجي ولا لطاولتي، لم أبحث عن بقايا الحنين في حنايا منزلي ولم أرش من تلك الكالونيا التي تضعها دائما أمي عند الباب، في الفراق تعودت أن لا ألتفت أن لا أضعف، كان أبي ينتظرني خارجاً ليقللني إلى الوداع الأخير، في الطريق لم أودع الشوارع ولم أسمح لعيني أن ترمش أو لقلبي أن يدق، في هذه المرة يجب أن لا يعرف قلبي إلى أين المسير، ودعني أبي كما ودعتني مدينتي صمتاً وقهرا.

        

مدينتي خصوصاً والمنطقة الشرقية عموماً في عين النظام مجرد سلة غذائية ومنطقة نامية لا أكثر، لم نكن في نظر السوريين سوى قرويين أو بداوة يعيشون في خيم يزرعون و يرعون الغنم، حتى أذكر دهشت المدرسين الوافدين من باقي المدن عند مشاهدتهم لشوارعنا وبيوتنا وأسواقنا، حتى في النشرة الجوية أسقطوا اسم الرقة عمداً، لم يكن لدينا ضباط ولا حتى مسؤولين كبار، حتى فريقي كرة القدم الشباب والفرات تبادلوا مراكزهم بين الدرجة الثانية والثالثة، وممثلي مجلس الشعب كان روتين عشائري والكرسي لمن غلب.
   

مدينتي عاصمة التحرير

 في طريقي إلى الحدود التركية أنعرج سائق الحافلة بنا غرباً ثم شمالاً لعله يكون في المدى الأمن عن النقاط العسكرية للفرقة 17 والتي يحاصرها الثوار منذ ما يقارب السبعة أشهر، منذ سبع أشهر تحررت مدينتي من قبضة النظام لتكون أول مدينة سوريا تخرج من يد النظام، الرقة أول مدينة تتحرر؟ في ذاك اليوم عصف الإعلام العربي والعالمي باسم الرقة وعجت مواقع التواصل الاجتماعي بأسماء شوارعها ونواحيها. في ذاك اليوم كانت الرقة عروس الحرية في عيون الأحرار وغنيمة في عيون متربصيها، وسبية في عيون غاصبيها، وعدو في عيون نظام الأسد وشبيحته.

           

في الوداع الأخير ماذا أقول وكيف لهذا العالم أن يسمع سيل الذكريات، هل سيرى تفاصيل الحنين في طريقي من شارع سيف الدولة إلى مدرسة الرشيد، هل سيشم رائحة الكعك في ليل العيد

دارت علينا الدوائر وتخلى عنا القريب قبل البعيد وتركنا كحقل تجارب. أكادُ أجزم أن ما تم في رقتي متفقٌ عليه، سيطرت خفافيش الليل داعش على المدينة وفي هذه اللحظة ولد قناع الإرهاب والذي أصبح شماعة ليغض البصر عن إرهاب الأسد وميليشياته، سخر العالم جميع قنواته وتمثلت البروباغندا بأجمل نجاحتها عندما صورت أن مدينتي الصغيرة هي عاصمة الإرهاب. مضت الحافلة في طريقها إلى الحدود التركية والمذياع يهدر بأغنية عراقية "مرينا بيكم حمد ونحن بقطار الليل وسمعنا دق قهوة وشمينا ريحة هيل. يا ريل صيح بقهر صيحة عشق يا ريل" كان السائق يدندنها بلهجته الرقاوية الثقيلة.

   
مدينتي اليوم تحتضر والجميع يسعى لأخذ نصيبه من هذه الضحية، وأما أبناءها لا حول لنا ولا قوة عساها بعض الكلمات التي نكتبها تترك لما تبقى من هذا الليل الطويل غفوة. في أروقة المجتمع الدولي يجول اسم مدينتي وعلى بازار محاربة الإرهاب تعلو الأصوات، الهدف هو تحرير عاصمة الإرهاب، النتيجة الخروج بنصر زائف بحجم الضخ الإعلامي، الطريقة قتل ما تبقى من المدنيين الذين لم تطالهم سكين داعش أو براميل النظام أو مدفعية العنصرين الأكراد YPG.

     

اليوم أنا ومدينتي في حداد، ترجلت الشهيدة من يد مُغتصب ليد مُحتل، على جثث أهلنا رفعوا أعلام التحرير وعلى جدران بيوتنا وضعوا صور الغاصبين، دنسوا فراتنا العذب وفي ليلها نصبت خيمة العزاء الطويل. اليوم أتميل كطفل تائه مع حقائبي في دروب الغربة، تكاد تلك الدروب أن تصيح من ثقل الخطى.

       

الوداع الأخير

أخذ الضابط التركي جوازي في معبر تل أبيض الحدودي، وختم لي بالدخول، ثقُلت الخطى وضاقت علي الأرضُ بما رحبت، في الوداع الأخير ماذا أقول وكيف لهذا العالم أن يسمع سيل الذكريات، هل سيرى تفاصيل الحنين في طريقي من شارع سيف الدولة إلى مدرسة الرشيد، هل سيشم رائحة الكعك في ليل العيد، أم يرى سمرات الشباب على كتف الفرات وصوت ياس خضر يهدر "تايبين وللمحبة ما يرجعنا الحنين ..غلط وادفعنا ثمنها أجمل أيام السنين"، أم سيشعر بنسمات الفرات في ليلي مدينتي وهي تجول بين حنايا العاشقين، ليتني في الوداع الأخير ألتفت وعند كل زاوية بكيت وكل طيفٍ يجول بها عانقت، ليتني حجر صوانٍ في قاع فراتك بقيت، لا لا، الحنين من قلبي قد رحل، فنصفه تحت التراب مع جثمان شهيد والنصف الأخر في الوداع الأخير انتحر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.