شعار قسم مدونات

ظاهرة محمد بايزيد ونهاية الحياة الخاصة

blogs محمد بايزيد

ألقت واقعة المخرج السوري محمد بايزيد على العديد من الظواهر الجديدة التي ظهرت مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي والتطور التقني غير المسبوق. كانت بداية الواقعة انتشار خبر محاولة اغتيال أحد المخرجين السوريين في مدينة إسطنبول ذات الحضور العربي السوري على وجه الخصوص، والتي شكلت على مدار سنوات الثورة السورية محضنا وملجأ آمنا للفارين بحياتهم وعائلاتهم من براميل الأسد وميليشياته.

 

تم تلقي خبر محاولة اغتيال المخرج بايزيد -ذي المتابعين الكُثر على مواقع التواصل- كما أراد وخطط لها تماما، حيث الانزعاج والتعاطف الكبيران، والالتفاف الضخم حول المخرج الشاب الذي يُمثل إزعاجا لأحد أكثر الأشخاص المكروهين في فضاء مواقع التواصل الاجتماعي وهو بشار الأسد.

 

وبعد أسابيع قليلة من انتشار خبر محاولة الاغتيال انتشرت عدة تسريبات مرئية للشخص نفسه وهو يتحدث مع أحد أصدقائه عن تخطيطه لهذه المحاولة عمدا، لخلق حالة قوية من التعاطف والالتفاف حول شخصه، وتحويل هذا التعاطف إلى فعل مُنتج، كتمويل فيلمه الوثائقي الجديد الذي سيكون موضوعُه عن أحوال المعتقلين في السجون السورية.

 undefined

لفتت أحداث هذه الواقعة النظر إلى سلوك المخرج نفسه على مواقع التواصل الاجتماعي وإلى سلوك كثيرين من نجوم ومشاهير مواقع التواصل، فاعتماد البعض على تسويق حياتهم الخاصة، كتصوير الحب ودفء وحميمية العلاقة العاطفية بين الزوج وزوجته، والصور المُتكررة بشكل لافت لهم في كل مكان يذهبون إليه وكل مدينة ينتقلون إليها، والأخبار الدورية عن كل شيء يفعلونه أو يحققونه وكل موقف يتعرضون له بل أحيانا يكون موضوع الخبر أو المنشور هو شعور ما مروا به، سواء كان هذا الموقف موقفا إنسانيا أو مهنيا، عاما أو حتى شخصيا، سواء كان يحدث أثناء قيامهم بالحج في مكة أو بالسياحة في أوروبا.

 

السؤال هنا ما الذي يبقيه هؤلاء لأنفسهم بعيدا عن الأغراب؟ ما حجم حياتهم الخاصة بعيدا عن تلك الحياة التي صارت على المشاع؟ والأهم هل حياتهم الخاصة فعلا بهذا البريق واللمعان كما يصورونها لنا، أم هي مثل حادثة الاغتيال المفبركة مجرد خدعة أخرى؟

 

يخبرنا عالم الاجتماع البولندي البارز زيجمونت باومان أن ظاهرة المراقبة في ظل التقنية السائلة الجديدة التي يملكها كل أحد تقريبا تبدلت بشكل جذري، فبعد أن كانت أقلية في أعلى هرم السُلطة تملك تقنيات تمكنها من مراقبة غالبية الناس، أصبحت اليوم الأغلبية من الناس هي مَن تراقب الأقلية ولكن ليس بغرض جمع المعلومات الأمنية كما كان في السابق، الأمر هذه المرة جمع المعلومات التسويقية وأخبار الفضائح وقصص النجاح وإشباعا لغريزة التلصص، والأمر الأهم الاستفادة من أنماط حياة المشاهير ومحاولة محاكاتها وتحقيقها كشكل من أشكال الحياة السعيدة إن لم تكن الشكل الوحيد.

 

تؤثر التحولات التواصلية والتقنية في تقلص المجال الخاص وتآكل شرعيته كحيّز للشعور بالذات والأمان والمشاعر الصادقة، حيث باتت الحياة داخل الحيّز الخاص مهددة دائما بالشعور بالنقصان وبعدم الكفاية والفاعلية

يضيف باومان أن مواقع التواصل والتقنية السائلة تُمثل قناة التغذية الأساسية التي تتعذى عليها المراقبة في شكلها الجديد، فالهوس بالاستعراض والصورة وتضخم الذات وتسويقها كلها تجليات للمراقبة السائلة اليوم في عصر ما بعد الحداثة.

 

بقليل من التأمل نجد أثر التقنية ومواقع التواصل في تشكيل وعي جديد بالذات، فالأمر لم يعد هجوم السلطات المستبدة اليوم على حياتنا الخاصة واختراقها لخصوصياتنا، بل أصبح الناس من المستخدمين النشطين لمواقع التواصل يذهبون بحقهم الأصيل في تحصين حياتهم الخاصة وحفظ خصوصياتهم بعيدا عن الحيّز العام إلى المذبح بإرادتهم، أو في أقل الظروف يقبلون بالتنازل عن هذا الحق طمعا في العجائب والفرص المعروضة على تلك المواقع والتي تمثل ضغطا متواصلا يطالبنا دائما بتسليم استقلالنا الشخصي والانضمام إلى قوافل السعداء على مواقع التواصل الاجتماعي.

 

يَخلُص عالما الاجتماع زيجمونت باومان وديفيد ليون إلى أن أثر تلك التحولات التواصلية والتقنية هو تقلص المجال الخاص وتآكل شرعيته كحيّز للشعور بالذات والأمان والمشاعر الصادقة، حيث باتت الحياة داخل الحيّز الخاص مهددة دائما بالشعور بالنقصان وبعدم الكفاية والفاعلية، ما لم تُعرض على العام وتُسوّق في صور جميلة وأخبار وقصص تدعو إلى الإعجاب.

 

وهو ما قد يدفع بأحد نجوم مواقع التواصل الاجتماعي إلى تلفيق قصة كاملة عن تعرضه للاغتيال، في محاولة لتسويق حياته الخاصة ومآسيها وأخطارها ليحصل على أكبر قدر ممكن من الانتباه والتضامن من جيش المراقبين بشكل دائم، لعله يستثمر تلك المراقبة في تمويل أحد مشروعاته القادمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.