شعار قسم مدونات

لماذا وعد ترمب أخطر من وعد بلفور؟

U.S. Vice President Mike Pence stands behind as U.S. President Donald Trump holds up the proclamation he signed that the United States recognizes Jerusalem as the capital of Israel and will move its embassy there, during an address from the White House in Washington, U.S., December 6, 2017. REUTERS/Kevin Lamarque TPX IMAGES OF THE DAY

بعد 37 يوما فقط من إصدار وعد بلفور (2 نوفمبر 1917) بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين يدخل قائد القوات البريطانية الجنرال إيدموند ألينبي مدينة القدس في (9 ديسمبر 1917) ليبدأ تحقيق وعد من لا يملك لمن لا يستحق وذلك في سياق الانتداب البريطاني إبان الحرب العالمية الأولى. انتظرت الحركة الصهيونية ثلاثة عقود كاملة ليتحقق الوعد فتأسس الكيان الصهيوني (14 مايو 1948) على الأراضي الفلسطينية بعد أقل من ثلاث سنوات على نهاية الحرب العالمية الثانية. وبين إصدار الوعد البريطاني وتنفيذه، إذاً، 30 سنة ونصف. وهي المدة الزمنية التي تطلبها الوفاء بالوعد الذي قطعه وزير خارجية حكومة جورج الخامس، ملك بريطانيا آنذاك، لليهود الصهاينة. وعد تحقق خلال الولاية الأولى للرئيس الأمريكي الأسبق ترومان (Truman) ستة أشهر بعد قرار تقسيم فلسطين الذي اعتمدته الأمم المتحدة ومنحت بموجبه أغلبية الأراضي الفلسطينية للصهاينة مع إبقاء القدس وبيت لحم تحت وصاية دولية.
 
بعد مرور قرن على إصدار وعد بلفور ومرور زهاء سبعين عاما على تأسيس إسرائيل يتم انتخاب ترمب (Trump) رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية -وهو، بالمناسبة، من أصول يهودية- ليتمم مشروع اللورد البريطاني والتر روتشيلد اليهودي الذي وجه إليه بلفور وعده طالبا منه أن يبلغ الاتحاد الصهيوني بتصريحه الشهير. وكان ترمب، خلال عدة محطات من حملته الانتخابية، قد وعد الإسرائيليين بتنفيذ ما عجز عن تحقيقه ثلاثة رؤساء أمريكيين قبله طيلة 22 سنة. ففي شهر مارس من عام 2016 قال أمام لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك) أقوى جماعات الضغط الإسرائيلية بأمريكا: إننا سوف ننقل السفارة الأمريكية إلى العاصمة الأبدية للشعب اليهودي القدس. لم يكد الحول يمر على هذا الوعد حتى خرج ترمب على العالم في (6 ديسمبر 2017) ليعلن القدس عاصمة إسرائيل وقرار إدارته بنقل السفارة الأمريكية إليها ليشرع بذلك في توقيع وتنفيذ وعده للإسرائيليين.
   
الملحوظ أن الوعدين معا تمت بلورتهما في ظروف خاصة وسياقات استثنائية محليا وإقليميا ودوليا. الأول جاء في سياق الحرب العالمية الأولى حيث كانت الإمبراطورية العثمانية تتجه نحو التفكك والسقوط بعد طول احتضار وضعف داخلي استغلته القوى العالمية المهيمنة آنذاك (فرنسا وبريطانيا) لتقسيم وتفتيت العالم الإسلامي ابتداء بالتفريق بين العرب والترك وانتهاء باحتلال فلسطين بعد 730 سنة من الحكم الإسلامي. أما الوعد الثاني فيأتي بعد ست سنوات من اندلاع ما سُمي بالربيع العربي حيث عرفت عدة دول عربية احتجاجات شعبية انقلبت فيما بعد لتحل محلها ما عُرف بالفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وكان من نتائجها سقوط عدة أنظمة عربية وقيام الفوضى التي ما زالت تتخبط فيها المنطقة؛ ولا يُستبعد أن تؤول إلى مزيد من التقسيم على شاكلة ما حدث بالسودان في 2011 وهو ما تمت محاولة تكراره في العراق قبل أشهر لفصل كردستان عن التراب العراقي. 

 

صرح نتنياهو:
صرح نتنياهو: "هناك لحظات كبيرة في تاريخ الصهيونية: وعد بلفور وإقامة الدولة وتحرير القدس وخطاب ترمب يوم أمس". وتختصر هذه المقولة قرنا كاملا من عمر المشروع الصهيوني

 
ويأتي وعد ترمب، إذاً، في أوج الضعف والوهن العربيين ولا شك أن الإدارة الأمريكية الجديدة اختارت الظرفية المناسبة عن وعي كامل بمحدودية الرد العربي الرسمي وُيرجح أن إدارة ترمب قامت بترتيبات سابقة تُؤكدها التسريبات الإعلامية الأخيرة بشأن التفاوض القبلي مع كل من مصر والسعودية حول القرار الجديد، باعتبارهما الدولتين العربيتين الأكبر والأقوى في المنطقة، والأكثر تطبيعا مع الكيان الصهيوني سرا وعلانية. وباستقراء الردود الرسمية الأولى، سعوديا ومصريا، يتبين أنها لا تتجاوز التحذير والإنذار بأن القرار الأمريكي قد يتسبب في غليان شعبي غير مسبوق كما لو أن النظامين يُلقيان بالكرة في ملعب شعبيهما ولسان حالهما يكاد يقول: نقبل قراركم ولكن شعوبنا لن تسكت. في هذا السياق، وفي غمرة انتشائه بالقرار الأمريكي، حذر رئيس وزراء إسرائيل الحكام العرب ودعاهم للتحكم في شعوبهم (وإلا فسيرون وجه إسرائيل الحقيقي). نعم، هكذا تحدث بنيامين نتنياهو لحظات بعد قرار ترمب!
 
وفي اليوم الموالي، صرح نتنياهو في بيان له قائلا: "هناك لحظات كبيرة في تاريخ الصهيونية: وعد بلفور وإقامة الدولة وتحرير القدس وخطاب ترمب يوم أمس". وتختصر هذه المقولة الموجزة قرنا كاملا من عمر المشروع الصهيوني الذي انطلق بوعد بلفور وتجسد فعليا بتأسيس إسرائيل وتعزز باحتلال القدس في 1967 واليوم نراه يستمر ويتمدد بخطاب ترمب. لهجة الوعيد والتذكير في خطاب نتنياهو بُعيد قرار ترمب تحمل في طياتها الكثير من الإشارات لما يمكن أن يحدث في المستقبل القريب من تغييرات في السياستين الإسرائيلية والأمريكية تجاه فلسطين والقدس بصفة خاصة والشرق الأوسط والحكام العرب بصفة عامة. إسرائيل وأمريكا يعلمان علم اليقين، كما يرى ذلك العالمُ، أن المنطقة العربية تمر من أصعب وأسوء مرحلة في تاريخها وتعيش أعلى مستويات الضعف وهي أكثر مناطق العالم اشتعالا وأقلها استقرارا ويبدو أنها تسير نحو المزيد من الكوارث والفوضى. ولعل إسرائيل وأمريكا أكثر من يدري ويريد ذلك.
 
صحيح أن الظرفية الدولية الراهنة التي يأتي فيها قرار ترمب ليست سياق حرب عالمية كما كان الشأن بالنسبة لوعد بلفور الذي أُصدر قُبيل نهاية الحرب العالمية الأولى أو بالنسبة لتأسيس إسرائيل بُعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ لكن الوضع الحالي قد يؤول إلى أخطر من كل ذلك ليُنتج واقعا كونيا جديدا وغير مسبوق. أتوقع في الأشهر القليلة المقبلة وطيلة سنوات ولاية ترمب أن تتبلور تدريجيا ظروف دولية استثنائية تزيد من ضعف المنطقة العربية مقابل تعاظم الغطرسة الإسرائيلية المدعمة من طرف الإدارة الأمريكية في أفق إفراز وضع كوني جديد يُمهد لنظام عالمي جديد تكون فيه الريادة لدولة إسرائيل. فلو تدبرنا أحداث القرن الماضي لظهر لنا جليا كيف انتهت الحرب العالمية الأولى ببروز فرنسا وبريطانيا كقوتين رائدتين في العالم، ليخفت نجمهما بعد الحرب العالمية الثانية ويفسحا المجال أمام الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي قبل أن يسقط السوفيات ويستفرد الأمريكان بالعالم.

لم تستكمل بعد كل أركان المشروع الصهيوني فهو لن تكتفي بالوضع القائم وسيسعى -بعد تحقق الحلم الأصغر
لم تستكمل بعد كل أركان المشروع الصهيوني فهو لن تكتفي بالوضع القائم وسيسعى -بعد تحقق الحلم الأصغر "إسرائيل"- إلى تحقيق الحلم الأكبر "إسرائيل الكبرى" الممتدة من النيل إلى الفرات

 
وسيلعب النفوذ اليهودي-الإسرائيلي في أمريكا والعالم دورا أساسيا في المرحلة المقبلة في فرض سياسات ستقلب الموازين لصالح (الولاية الواحدة والخمسين) حتى لو تطلب ذلك الدخول في حرب عالمية ثالثة أشد فتكا من سابقتيها. ولعل من تجليات النفوذ اليهودي في بلاد العم سام أن قرار الرئيس ترمب الأخير بشقيه -الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها- ما كان ليخرج إلى حيز التنفيذ لولا تأثير هذا المثلث الصهيوني الخطير في إدارته: جاريد كوشنر، كبير مستشاريه وزوج ابنته؛ جيسون غرينبلات، ممثله الخاص في المفاوضات الدولية ودافيد فريدمان سفير أمريكا في إسرائيل وكلهم يهود متعصبون.
  
ختاما، وختامها أمل، تجدر الإشارة إلى أن الحركة الصهيونية، التي بدأت بوعد بلفور، لم تستكمل بعد كل أركان مشروعها فهي لن تكتفي بالوضع القائم وستسعى في السنوات القليلة القادمة -بعد تحقق الحلم الأصغر (إسرائيل)- إلى تحقيق الحلم الأكبر (إسرائيل الكبرى) الممتدة من النيل إلى الفرات. إنه عصر (العلو الكبير) لبني إسرائيل الذي يعقب (الإفساد الثاني) الذي دام وامتد طيلة قرن من الزمن! بهذا تُنبئنا سورة الإسراء عنهم وتبشرنا نحن، في المقابل، بوعد الله لنا ودخول المسجد الأقصى منتصرين (وكان وعدا مفعولا). إنه (وعد الآخرة) الذي ننتظر تحققه بعد تحقق (وعد أولاهما).. فإن كان بلفور وعدهم بالدولة فوفى بوعده ثم وعدهم ترمب بإعلان القدس عاصمة لهم ووفى.. فالله عز وجل أكبر وأقوى وأوفى بالوعد. فمن حيث لا يشعر صهاينة بني إسرائيل، استدرجهم الله وجمعهم إلى هذا الكمين الرباني العظيم (فلسطين) بعد أن كانوا شتاتا في الأرض مصداقا لقوله تعالى: "وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا"، الإسراء: 104. 

  
إنه إذاً، (وعد الآخرة) قد بدأت بشائره تلوح في الأفق كأنها بلسم لجراح هذه الأمة التي تداعت عليها الأمم وعلى رأسها بنو إسرائيل وأذنابهم. فإذا كان نتنياهو يفخر باللحظات الأربع الكبيرة في تاريخ الصهيونية (وعد بلفور، تأسيس إسرائيل، احتلال القدس وخطاب ترمب) فحق لكل مؤمن أن يفخر بخمس لحظات من تاريخ القدس: حين أُسري بسيد المرسلين وخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام إلى المسجد الأقصى؛ حين فتحها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 637 م؛ حين قام باستردادها القائد صلاح الدين الأيوبي في 1187م؛ يوم يحررها نهائيا وإلى الأبد الإمام المهدي المنتظر ويوم ينزل فيها المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ليتخذها عاصمة لدولة الإسلام الكبرى ويحكم منها العالم بعد أن يقتل الدجال الذي قامت إسرائيل لأجله ويهزم جيشه لتضع كل الحروب أوزارها وينعم العالم بالسلام. وما يُدرينا لعل ذلك قريب… ألا إن نصر الله قريب!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.