شعار قسم مدونات

للفن حمّى تودي بحياة صاحبها

مدونات - البجعة السوداء

حمّى العبقرية ما هي إلا أثرُ الوحي الإلهيّ! تحملُ فنّانها على خلق السنفونيات الفذّة، النصوص المتينة، أو حتى الخطوط المنقوشة على أوراق تكاد تُعانِق حبرها الناطق. تُلهمه التسامي التام بعمله الفني، تلهمه الهذيان، والتفاعل المطلق! تخبره أن جسده لن تصل قدرته يوما لنطاق قوةٍ مماثلة؛ فتغدو الحمى ضريبة وقوعها على جسدٍ ذي أبعادٍ محدودة!

هذا ما حاكاه المخرج المبدع "دارين أرنوفسكي" في فيلم (Black Swan) عام 2010، الذي يحكي قصة راقصة باليه في نيويوك قادتها موهبتها لأداء دورين متناقضين في مسرحية بحيرة البجع، فتجلى إبداع الحكاية بالتقاء النقيضين في كيان واحد، البجعة البيضاء والبجعة السوداء العدوانية، إذ يمثل هذا الأخير الأداة التي تمكِّن البطلة من سبر أغوار الظلام داخلها.

فحينما تلتقي "نينا" بالجانب المظلم من ذاتها؛ تستيقظ أفعالها على العدوانية التي لم تخبر وجودها قط، في حين تبرز كل شفافيتها لحظة ظهور البجعة البيضاء. وأما نهاية الفلم فهو لحظة إبداع "نينا" الحقيقية، إذ تسقط على المسرح متأثرة بآلام البجعة البيضاء التي تتعرض لخيانة الأمير، وعندما يرى مدير الفرقة الدماء التي غرقت فيها نينا يسألها: ماذا فعلتي، فتجيب: لقد شعرت به.. كان مثاليا حقا!
 

وتتجسد الفكرة ذاتها مرةً أخرى في فيلم "موزارت" وحياته التي مثّلها المخرج "ميلوش فورمان" بفيلم (Amadeus) عام 1984 في فيينّا، فها هو هذا الموسيقار بكل ما فيه من عفوية ملهمة ينصبُّ بهامتهِ الصغيرة على طاولة البلياردو التي غدت رغم فوضاهُ المريعة، ملاذا يُلهمه الموسيقى! يمرح فيكتب أوبرا؛ بأدوارٍها وكلماتِها ورَقصاتِها.. مزيجٌ مفعمٌ بالجمالِ والخروجِ عن المألوف! يحزن، فيكتُب أخرى.. يغضبْ، فيكتب ثالثة.
   

undefined

 

وأبدع أخيرا المخرج بنقل أثر أوبرا (Réquiem) أو قداس الموت الذي ألفه "موزارت"! إذ كان موزارت أثناء تأليفِه لهذه الأوبرا يخطُّ قدّاسا حقيقيا لموته؛ فبالرغمِ من عدمِ حدوث هذا حقيقةً، إلا أنه أجمل ما جسّده المخرج ليحاكي التفاعل المطلق للفنان، وما أسميه نفسي حمّى العبقرية وجنونها! لمْ يكن يعي أن هذه المقطوعة الموسيقية سَتودي بحياته، لكن بعبقريته عاش نهايتَه قبل أن يشهَدها فعلا، إذ كان يصارعُ الآلام والمرض أثناء كتابتِهاِ، حيث قال لزوجته "إنها تقتُلني" وهذا ما فعلته به هذه الأوبرا في نهاية المطاف! 

لا يسعني الوصف كيف للمشاهد العيش مع ذلك الكم من الجُرأة والشيطنة التامة والغطرسة الفتّاكة التي تتحول لملاك سماوي لحظةَ وقوع الإلهام الموسيقيّ! وكأنها بقدومِها، آلهةٌ مقدّسة.. ترخي سُدولها على كيانِ ذلك الجسد فتصمتُ الحياة وقارا لتجليّاتها، حتى أن "أنطونيو سالييري" عدّوه اللدود، رغم غيظه منه استسلم قائلا: "موسيقاه على الورق كانت تبدو كاللاشيء، البداية بسيطة.. تكاد تكون هزلية.. مجرد نبضات.. أبواق.. مزامير عالية.. كصوت صندوقٍ مُهترئ.. ومن ثمّ.. فجأة، عاليا متفوقا على كل شي.. يظهر المزمار.. بنغمة واحدة، تتراقص في الهواء بسيطة وغير ثابتة.. حتى يأتي الناي ويأخذ مكانه.. يراقص هذه النغمة ويحولها إلى عبارة موسيقية مُبهجة، لا مثيل لها! هذا لم يكن تأليف قرد عروضٍ مسرحية، هذه كانت موسيقى لم أسمع مثلها من قبل.. كانت مليئة بتوقٍ لا يمكن الارتواءُ منه.. بدتْ لي وكأنني أسمع صوت الإله!"

  

كيف لا، و"موزارت" في كل دقيقة في الفيلم كان يعيش للموسيقى وبسببها! حتى زوجته رغم احتواءها لحياته العجيبة لم تظنّه إلا يهذي حين اشتدّ عليه أمر أوبرا قدّاس الموت. لا ألومها بهذا حقا؛ فهو تميّز بطيشه ولا مسؤوليته اتجاه كلِ ما حَوله. ورغم صبينتهِ المستفزّة؛ إلا أنّه تمكّن بعنفٍ واضح من سلبِ المشاهد، وأخذهِ على التسليمِ المُطلق لعبقريّةِ موهبته وكأنها صك الغفران التي تغفر له فظاعة تصرفاته وهمجيته.

إن التشابه الخلّاب بين الفيلمين هو التجسيد المبدع لحركة السريالية أو "ما فوق الواقعية"، التي ظهرت في فرنسا في الأدب والموسيقى والرسم، والتي تقتضي تنصيبَ الخيالِ أو الشعور الداخلي كبطلٍ أساسيّ للتحكّم بمجريات الأحداث. لاقت هذه الحركة الرفض وبنفس الوقت ألهمت الكثيرين، حتى أني إن أتحتُ للعلم فرصة التطفل على مخطوطتي التحليلية هذه؛ فسيتجلى بشرحه الدقيق كحقيقة علمية لما افتَرَضهُ روّاد هذه الحركة مجرد وسيلةً للتمرّد على كل ما سبق بجعل الداخلِ هو سبب أي شيء خارجي.
 

undefined

 
هذا ما يثبته العلم بتشريحه للعقل البشري، وإلقاء الضوء على دور العقل الباطني وقوته الكامنة القادرة على التحكم بكل ما دونه. فلهذا الجزء الفذّ القدرة على تصوير وتخزين أكثر من 10000 ترليون صورة ومعلومة، إلا أنه مصابٌ بعطبٍ واحد؛ وهو عدم قدرته على التميز بين الحقيقة والواقع، حيث يكون ذو وقعٍ ايجابيٍّ تارة أو سلبيّ تارة أخرى. فمثلا، عند الرجوع للكثير من الإثباتات الطبية لما يُدعى الـ"Nacebo Effect"  نرى الأثر السلبي للعطب الذي ذكرناه، إذ نرى كيف للفكرة السلبية أن تسبب تردّي الحالة الصحية لأشخاص سليمين أو حتى قد تؤدي للموت الفعلي لمجرد تخيّله.

ففي أحد التجارب العلمية لإثبات الـ "Nacebo Effect"، أحضر مجموعة من الأطباء سجينا محكوما عليه بالإعدام، لتنفيذ الحُكم بما يخدمُ تجاربَهم، فوضعوه على كرسيّ، أغمضوا عينيه، وثبّتوا على ذراعيه أنابيب صغيرة لتصفية دمه، لكن ما فعلوه حقيقةً أن الأنابيب سار فيها ماء دون أن يمسّوا جسد السجين بأذى! وبمجرد سماع القطرات المتساقطة في الوعاء؛ توفيَ حقيقةً ظانا أنها دماءه.

إن عقله الباطن لم يتخيل إلا ما قيل له، أن هذه القطرات هي بالفعل دماءه، فقوة استجابته وسوء تميزه بين الواقع وما هو وراءه أعطى أمرا لبقية أجهزة الجسم بالاستعداد للموت.. وهذا ما حدث! الأمر ذاته يحدث عندما تراودنا أحد الكوابيس ليلا أثناء النوم؛ فتفاعل الجسد معها مذهلٌ تماما، من تعرّق وتسارع في نبضات القلب واضطراب، رغم أنها مجرد صور لا تمت للحقيقة بصِلة وتتلاشى تماما بمجرد الاستيقاظ.

وهذا ما حدث مع "نينا" في (Black Swan) و"موزارت" في (Amadeus) على المستوى العلمي المنطقي للأشياء. لم يكن حلما أو وهما.. وإنما واقعُ موهبةٍ أتقنت فن التواصل مع مكنونِها. إذ أن الشيفرة الخاصة للموت نشأت من الداخل حيث تفاعل كل منهما مع دوره.. فكان الفنان هو نفسه ضحية عبقريته وموهبته هذه المرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.