شعار قسم مدونات

"الصرخة المكتومة" في أذن عمر بن الخطاب

blogs سوريا

المقارنة طريقة للوصول إلى المعرفة، والضّد يظهر حسنه الضّد. سأقوم بمحاولة إسماع صرخة حرائر سورية لعمر بن الخطاب، كما عرضتها في مقال سابق على الإنجيل، علها تصل.

 

يأمر الله بالستر، إن الله ستيّر يحب الستر، وفي هذا الباب كتب ورقائق، منها قصة بغي بني إسرائيل، التي ورد فيها هذا الحديث النبوي الشريف: "بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها، فسقته فغفر لها به". وقد اجتهد شرّاح الحديث، فوجدوا فيه عشرين فائدة، أحدها أنه اجتمع في الحديث ثلاثة أمور محتقرة: الكلب، وهو حيوان نجس، والمرأة البغيُّ، والمُوق، وهو الحذاء. وأن البغي دخلت بهما الجنة، ونالت المغفرة. الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على قصة هذه المرأة: فهذا لما حصل في قلبها من حسن النية والرحمة إذ ذاك.

 

وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، موقفًا قويًا، يرقى إلى العقوبة، أو التهديد في حق من يفضح ستر من زنت ثم تابت إذا ما خطبها خاطب

يروي الإمام مالك في الموطأ واقعة حصلت في زمن عمر: "أن رجلاً خطب إلى رجل أخته، فذكر أنها قد كانت أحدثت – أي زنت – فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فضربه أو كاد يضربه.. ثم قال: ما لك وللخبر؟". قال الإمام ابن عبد البر: قد روي هذا المعنى عن عمر من وجوه، ومعناه عندي – والله أعلم – فيمن تابت وأقلعت عن غيّها، فإذا كان ذلك حرّم الخبر بالسوء عنها، وحرّم رميها بالزنا، ووجب الحدُّ على من قذفها، إذا لم يقم البينّة عليها.

 

وروى الإمام ابن عبد البر بسنده عن الشعبي: أنّ رجلاً أتى عمر بن الخطاب فقال: إن ابنة لي ولدت في الجاهلية، وأسلمتْ، فأصابتْ حداً، وعمدتْ إلى الشفرة، فذبحتْ نفسها، فأدركتها، وقد قطعتْ بعض أوداجها بزاويتها، فبرئتْ، ثم مسكتْ، وأقبلتْ على القرآن، وهي تُخطب، فأُخبر من شأنها بالذي كان؟ فقال عمر: أتعمد إلى ستر ستره الله، فتكشفه، لئن بلغني أنك ذكرت شيئاً من أمرها لأجعلنك نكالاً لأهل الأمصار، بل أنكِحْها نكاح العفيفة المسلمة.

 

القضية التي وقف فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، هذا الموقف القوي، الذي يرقى إلى العقوبة، أو التهديد بها في حق من يفضح ستر من زنت ثم تابت إذا ما خطبها خاطب، هي قضية تلتبس على العقول، وتتداخل فيها الحقوق ظاهراً، فهناك حق الستر لمن تابت، وهناك حق الخاطب في ألا يخدع بالزواج ممن يظن أنها لم يمسّها غيره، لكن الفاروق يجعل الستر حقاً لا يعارضه حق غيره، بل ويسقط ما قد يُتوهم من حق للخاطب في إعلامه بحال مخطوبته قبل توبتها.

 

يروي داعية سوري معروف هذه القصة عن فضيلة الستر، وبطلها إمام سوري معروف من أهل الصلاح والفضل، وتعود إلى الخمسينيات من القرن الماضي، كان يدعو ربّه أن يرزقه رؤية النبي عليه الصلاة والسلام، ومن رآه في المنام، فقد رأه حقاً، فكان أن رأه في المنام أخيراً، وأمره بأن يذهب ويزور فلان الفلاني في حارته، ويبشّره بالجنة، فنهض متعجباً وسعيداً بالرؤيا، التي جعله فيها النبي عليه الصلاة والسلام ساعياً ورسولاً، وسأل واستدل على عنوان المرسل إليه، وفي التراث الإسلامي عشرات القصص مثل هذه القصة، والتي تهدي الرؤى فيها مفاتيح الأبواب المغلقة، ومنها قصة "الخيميائي"، التي اشتهرت، لباولو كويلو، وأذهلت الغرب، وطبعتْ وترجمتْ إلى لغات الأرض، وهي مقتبسة من ألف ليلة وليلة. وأصلها في التراث الإسلامي.

 

دقَّ الإمام على الرجل الباب، ففتحه له، فقال الإمام: جئت أبشرك بخير يومٍ طلع عليك، لكن أخبرني بفضيلة أو مكرمة عملتها، حتى نلت هذه البركة، وإلا أمسكت، فروّى له الرجل أنه تزوج امرأة، ولدت في الشهر الخامس، فسترها، ولم يفضحها، وطمأنها، وأخذ الوليد إلى المسجد في صلاة الفجر، ووضعه أمام باب المسجد، وصلّى مع الناس، وخرج متأخراً قليلاً، واقترب من المصلّين، الذين التموا حول الطفل، فتقدم لرعايته وتعهد لهم تربيته، وأعاده إلى أمه.

 

لا بد من عرض شهادات الحرائر على الناس، فهنّ بالآلاف، فضمير الناس نائم، فهم كإبل مائة لا تكاد تجد فيهم راحلة، أو هم عاجزون، وهنّ في حال لا يحسدنَ عليه
لا بد من عرض شهادات الحرائر على الناس، فهنّ بالآلاف، فضمير الناس نائم، فهم كإبل مائة لا تكاد تجد فيهم راحلة، أو هم عاجزون، وهنّ في حال لا يحسدنَ عليه
 

رويت هذه الأمثلة الثلاث، التي لا تشبه واحدة منها واقعات حرائر الصرخة المكتومة، بل هي نقيضها. وكان لا بد من عرض شهادات الحرائر على الناس، فهنّ بالآلاف، فضمير الناس نائم، فهم كإبل مائة لا تكاد تجد فيهم راحلة، أو هم عاجزون، وهنّ في حال لا يحسدنَ عليه، فإما قتلن في معتقلات النظام، أو ذبحهن أهلهن، أو هن منبوذات. ولا يشبهن الحالات المذكورة آنفاً، فلسن بغايا أو ضالات، إنما هن مغتصبات لعجزنا عن حمايتهن ووقايتهن، فهو ذنبنا بعد النظام، بل إن شهادات الشهيدات تقول: إن الناس هم المشكلة الثانية بعد النظام، وإن كان من حدٍ، فينبغي أن يقع على رأس النظام، ويلام عليه الشعب.

 

إِنَّا لَمُغْرَمُونَ.. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ

اتصلتُ بإمام مغربي يعرف الداعية السوري، الذي روى قصة الرؤيا في إحدى مواعظه، وطلبت منه المساعدة على عمل شيء ما لهؤلاء الحرائر الضحايا، الطاهرات، العفيفات، البطلات، فقال: إنه لن يتوان عن الخير، فطلبت منه أن يدعو الداعية السوري المعروف، إلى زيارة واحدة من هؤلاء الضحايا الكسيرات، ويمكن السعي لمعرفة العنوان، وزيارة الداعية في وفد من الأَعلام والوجهاء، ستكون عزاءً وسلوى، لا تدانيها زيارة أحد، فهو معروف بالفضل والتقوى والصلاح، وليس عندنا مؤسسات تمنح الجوائز، والأوسمة ينالها المجرمون والراقصات، وما بقي عندنا شوارع، ولا مساجد نسميها بأسمائهن.

 

فقال الداعية المغربي بأنه يظنُّ – وبعض الظنِّ إُثم-  أنّ الداعية السوري سيعتذر، فهو ينأى بنفسه عن السياسة، والحقيقة إن الأمر ليس نوافل سياسة، فهي حرب، لم تدع أحدا إلا آذته، وقال: وينوي العمرة خلال هذه الأيام. فقلت: إن الداعية حجّ واعتمر كثيراً، وأموال العمرة ستذهب إلى جيب إيفانكا، وأختنا وأمنّا وابنتنا، خير من العابدة العارفة بالله، إيفانكا، وأَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.