ارتأيت تناول الشيخوخة لما تطرحه هذه المسألة من نقاشات على عدة مستويات، لعل أبرزها مرتبط بمآل الأشخاص كبار السن ومصيرهم بعد أن يعجزوا عن الاعتناء بأنفسهم، فمن لا يدرك المعاناة النفسية والجسدية التي تُحيط بكبار السن؟ ومن يَخفى عليه ما يجول ويجري في دُور رعاية المسنين؟ ومن لا يتأسف على حال الأبناء الذين يُقررون إرسال آبائهم إلى تلك الأماكن؟ ومن لا يستشعر مصير هؤلاء الأشخاص عندما يصل بهم قطار الحياة إلى هذه المحطة؟ ربما سيشعر المُسنون بأنهم عالة على المجتمع، فكيف ستكون نفسية هؤلاء الأشخاص بعد أن أدركتهم الشيخوخة، ورفضهم المجتمع؟ غالبا سيصابون بالإحباط، وسيستسلمون لليأس، وربما سيتمنون أن يأخذهم الموت في أقرب الآجال، ولعل ذلك مصير محتوم، لكنْ لا يجب أن يصبح همهم هو انتظار الموت، بل يجب أن تكون لديهم فكرة استئناف الحياة.
هذه هي الفكرة التي يجب أن تترسخ لديهم، ونحن من يجب أن نشعرهم بهذا، وحتى يكون الأمر كذلك، لا بد من تأسيس وعي مجتمعي قائم على الاعتناء بكل من هو في حاجة إلى الرعاية، وأبرز من يحتاج إلى الرعاية هم هؤلاء كبار السن، لأن ذلك سيشعرهم بأهميتهم وبأنهم مرغوب فيهم؛ هذا الوعي المجتمعي يجب أن يقوم على أن كل شخص تنتظره مرحلة الشيخوخة، وبالتالي فهو ملزم -بكيفية أو بأخرى- بالمشاركة في تأسيس هذا الوعي، من خلال إبراز أهمية الاعتناء بالمسنين وورعايتهم وعدم تجاهلم ورفضهم، وخير مثال في هذا الصدد "كما تدين تُدان"؛ إذ مما لا شك فيه أنك ستجد نفسك تُعامَل بالطريقة نفسها التي تُعامِل بها، وتلك حتمية القدر؛ لهذا لا بد من المشاركة في تأسيس وعي قائم على احترام كبار السن وتقديرهم والتعامل معهم بسعة صدر، وتقبل كل ما يصدر منهم، وتحمّل كل أفعالهم، لأن ذلك هو السبيل إلى الخروج من هذه الأزمة التي تحيط بهؤلاء الأشخاص.
قد يكون لوجود دور رعاية المسنين وجهان مُتباينان، وجه سلبي يتمثل في أن وجود هذه الدُّور يولّد فكرة إرسال الآباء إليها لدى الأبناء عندما لن يصبح بإمكان الأبناء تحمل آبائهم، ذلك أن الابن عندما سيجد نفسه غير قادر على تحمل والديه كبار السن، فهو سيفكر في طريقة مقبولة لديه للتخلص منهم، وهنا سيجد نفسه يفكر في دُور الرعاية، والتي من شأنها أن توفر على الابن الكثير، لكنها في نفس الوقت ستجني عليه الكثير من تأنيب الضمير، هذا إن كان ضميره حيا، وكثيرة هي الأفلام التي عالجت هذا المشكل، وركزت كثيرا على نفسية الآباء التي تتحطم من جراء ما أقدمت عليه فلذة كبدهم، سيبكون وسيتألمون داخليا، ومن أجل راحة أبنائهم، سيُظهرون أنهم يقبلون قراره بإرسالهم إلى دُور الرعاية، لكنهم في داخلهم يرفضون ذلك القرار. أما الوجه الإيجابي لوجود دُور رعاية المسنين فيتجلى في أنها تصبح الملجأ لمن لا ملجأ له، وتصبح مكانا يتسع لكل المسنين الذين رفضهم المجتمع، وللمسنين الذي نسوا أنفسهم في المجهول، وأصبحوا عرضة للمجهول، وهنا يصبح واجب إيوائهم في يد الدولة وجمعيات المجتمع المدني، من هنا يتضح أن وجود دُور رعاية المسنين يُشكل نقطة تساؤل على المستوى الأخلاقي والإنساني أساسا.
إن الشيخوخة بمثابة مرحلة تنتظرنا جميعاً، ولا مفر لنا منها، وبما أنها تنتظرنا فيجب علينا أن نُعِد لها العدة الكافية، رغم أن العدة لن تكفي لمعايشتها، لأن المرء حينها لن يكون باستطاعته الاعتماد على نفسه كثيرا، وسيحتاج إلى رعاية سواء من المقربين إليه أو من الأطراف الأخرى، وبالتالي فالاستقلالية لن تصلح أن نتحدث عنها في تلك المرحلة، والأمر الذي يصلح للحديث عنه هو الرعاية والاهتمام اللذان يجب أن يحظى بها المرء عندما يصل لمرحلة الشيخوخة، وذلك أقل ما يمكن فعله لأجل كبار السن، لأنه من خلال ما نفعله لأجلهم نكتسب إنسانيتنا، ومن خلال ذلك نتأكد من حياة ضميرنا.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.