شعار قسم مدونات

المسافة صفر.. حلايب ما وراء الكاميرا (1)

blogs حلايب

الكاميرا هي من أعظم الاختراعات التي صنعها الإنسان عبر التاريخ، فقد أحال اختراعها غالبية ممتهني الرسم إلى التقاعد. بفضل الكاميرا لم نعد نحتاج إلى الإزميل والمطرقة لنرسم على الجدران الأحداث التي عشناها، كما فعل أجدادنا الفراعنة، أو لنقوم بصناعة المنحوتات، كما فعل الإغريق، أو بالرسم على لوحات العرض بالألوان، كما فعل رسامو عصر النهضة. الكاميرا خلصتنا من كل هذا؛ بضغطة زر واحد تستطيع أن تسجل المشاهد التي رأيتها في هيأة صورة فوتوغرافية ثابتة أو تسجل اللحظات التي عشتها في فيلم.

 

لكنْ دوما كان الواقع أكثر جمالا وإثارة من أن يوصف أو يدوَّن أو يسجَّل، ولهذا أكتب لكم هذه التدوينات لأنقل لكم ما قصَّرتْ في نقله الكاميرا من حياة الناس البسيطة وطبيعة المكان الساحرة، لو أردت الحديث عن أهل حلايب لقلت إنهم أهل بادية لم يصابوا بعدُ بأمراض المدنية، كالتحاسد والتباغض والبخل، وهي أمراض ناتجة بالأساس عن الاكتظاظ السكاني.

 

رغم أن حلايب منطقة مليئة بالكنوز، وخصوصا التعدينية منها، فإن ذلك لم يغير في طبيعة أشغال أهلها، الذين يعيشون على رعي الإبل وغيرها من حيوانات تحتمل هجير صحرائهم وعواصفها الرملية المتتابعة، فالرعي هو المهنة التي يتوارثها أهل المنطقة منذ آلاف السنين.

 undefined

تفزعك حالة البؤس التي يعاني منها أهل المثلث، يبدون وكأنهم منسيون تماما، وفي إهمال تام، وهذا ما يتناقض تماما مع ما تصوره الحكومة المصرية والسائرون في فلكها من أنها تمنح أهالي المثلث خدمات مجزية لاستمالتهم إلى صفها. سألت عن نوع الخدمات التي تقدم للأهالي، فقيل لي إن مصر افتتحت بضع مدارس إبتدائية ومستشفى عسكريا في شمال المثلث، مع منح الأهالي بطاقات تموين مصرية يصرفون بعض المواد الغذائية والصابون، والتي عادة ما تكون رديئة.

 

هذا على الجانب المصري، أما على الجانب السوداني فهناك في منطقة "أوسيف"، التي أنشئت كمكان لتجمع أهالي حلايب الهاربين من الجيش المصري عندما دخل المثلث عام 1992م، فالوضع ليس جيداً كذلك، فمستوى التنمية في بورتسودان وجبيت وسنكات أعلى بكثير منه في أوسيف رغم أنها في ولاية واحدة، وكأن الحكومة السودانية لا تريد تنمية المنطقة باعتبار أنها ترى أنّ وضعها لا يزال مؤقتا، كمخيم كبير للنازحين، وعلى أمل عودة أهاليها إلى ديارهم في حلايب، التي أخرجوا منها في 1992م.

 

يقيم الأهالي في بيوت أكثرها من بيوت الخشب، مع استثناءات بسيطة لبيوت إسمنتية يسكنها المسؤولون وبعض كبار الموظفين. ويرى مواطن حلايب البسيط أن بيوت حلايب الخشبية أعظم عنده من أبراج وناطحات سحاب منهاتن، فهي جزء من ثقافته الموروثة وهي تمنحه الدفء في الشتاء والبرودة في الصيف. ويصب أهل حلايب جام غضبهم على قرارات النظام المصري، الذي يحاول أن يفرض عليهم بموجبها طريقة معينة في البناء تتناقض مع عاداتهم وتقاليدهم، في محاولة لإجبارهم على البناء بالمواد الثابتة.

 

أجمل ما في أهل حلايب الكرمُ والتواضع، جميعهم يرتدون زيا موحداً مكونا من الجلابية والسديري والعمامة، فلا تعرف غنيهم من فقيرهم بالمظهر، وهذا دليل على شدة تمسكهم بهويتهم. يتجمع أهالي حلايب في أوقات الصباح الباكر وبعد العصر في المقاهي في انتظار ما يطلق عليه "الجَبَنَة"، وهي القهوة على الطريقة السودانية، يشربونها من بُن مخصوص يطلق عليه بُن "الأكلوموية"، وتدور على هامش القهوة أصناف شتى من النقاشات السياسية والاقتصادية، وحتى الدينية.

 

هناك لوبي مصري "سيساوي" يسيطر على الإعلام العربي -باستثناء فضائية الجزيرة- ويعمل هذا اللوبي على فلترة أخبار الانتهاكات في حلايب هذه الأخبار عن مثلث حلايب في محاولة للتعتيم عليها

في كل أنحاء المثلث تُسمع أصوات السخط على الحكومة المصرية والسودانية سواء بسواء، فالساخطون على الحكومة المصرية يرون أنها تستخدمهم كرهائن لابتزاز الحكومة السودانية، إلى درجة أنها تمنعهم من زيارة أقاربهم في بورتسودان إلا بتصريح محدد المدة لا يزيد عن عشرة أيام، والذي يتأخر عنها يصادر بيته ويُمنَع من العودة إلى داخل المثلث في سلوك يشابه ما يمارس مع "المقدسيين" من قبل الاحتلال الإسرائيلي. هذا من جانب الحكومة المصرية، أما السخط على الحكومة السودانية فلأنها تتجاهل معاناتهم لصالح العلاقات مع مصر، ولا تتذكر قضيتهم إلا في فترات موسمية عندما تسوء العلاقات مع القاهرة، رغم أن أهالي المثلث ظلوا يرفعون عقيرتهم بالشكوى منذ سنوات، خصوصا أولئك المهجرين الذين مُنعوا من العودة إلى بيوتهم في حلايب واستقر بهم المقام في أوسيف.

 

في الحقيقة، حكى الأهالي حوادث مرعبة عن عمليات النهب التي يقوم بها ضباط الجيش المصري، ولولا الخوف من أن نتهم بإثارة الفتنة لروينا العجب العجاب من أمور لم أكن لأصدّقها لولا أني رأيتها بعيني وسمعت وقائلها بأذني من الأهالي، ومنها ما حكاه لي أحد مواطني حلايب، إذ قال: "كنا على طرف الحدود  في منطقة "مفتوحة" من السلك الشائك، ننتظر متسللين قادمين من المناطق التي يسيطر عليها الجيش المصري ومعنا عربتان  لنقلهم إلى أوسيف، فهاجمتنا قوة من الجيش المصري إلى ما وراء السلك الشائك، فأطلقت علينا النار وسيطرت على العربة الأولى وأخذوها إلى خلف السلك الشائك، وأما الثانية فلم يستطيعوا قيادتها فكسروا زجاجها وأطلقوا النار على سائقها وتركوه جريحا بعد أن أخذوا مسجل السيارة".

  

 
بغض النظر عن كون ما فعلوه هل يعتبر تهريبا أم لا؟ وأنا لا أعتبره تهريبا لأنه تنقّل بين بلد واحد باعتبار أن حلايب سودانية، فحتى لو كان تهريبا فمن أعطى الحق للجيش المصري بعبور السلك الشائك للإمساك بمواطنين سودانيين داخل أراضي السودان؟ وإن كانت تلك المجموعة أخطأت وعبرت لتلاحق المهربين (المزعومين) وأمسكت بهم، فمن أعطاها حق مصادرة سياراتهم أو تدميرها؟ وأخيرا ما هو الداعي لإصابة السائق وتركه ينزف حتى الموت والانسحاب؟ لماذا لم يأخذوه معهم ليعالجوه ويحاكموه بعدها؟ وهل تركه ينزف حتى الموت عقوبة له لأنهم لم يستطيعوا نهب سيارته؟ هذه الرواية وقفت عليها بنفسي حيث إنني كنت بالقرب من مكان الحادث.

 

مع الأسف هناك لوبي مصري "سيساوي" يسيطر على الإعلام العربي -باستثناء فضائية الجزيرة- ويعمل هذا اللوبي على فلترة أخبار الانتهاكات في حلايب في محاولة للتعتيم عليها، والتي أؤمن أن إخواننا المصريين سيتبرأون منها حتى أولئك الذين يؤمنون منهم بمصرية حلايب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.