شعار قسم مدونات

بين الأنقاض

مدونات - غزة

كما تنبتُ الشجرة الصغيرة الخضراء من بين الصخور، هكذا يعيش أهل غزة. يستيقظون باكراً ويصافحون الصباح متحدِّين جميع العوائق التي قد تواجههم. فتجد الطفل الصغير الذي يحمل حقيبةً بحجمه يسير لمدرسته مداعباً بخده الصغير قطرات الندى الصباحية. وتجد سائق التاكسي الذي لا يمل من الحديث عن الوضع السيئ في البلد. وبائع الكعك العجوز ينادي بصوته الصادح حتى يسمعه الجميع، جارّاً هُموماً بعدد أفراد أسرته على ظهره.

في الممرات الضيقة، حيث حفيف الأشجار وألوانٌ وحروفٌ وكلماتٌ غير مفهومة غطت الجدران، حين تلتقي طاقة الشباب مع عزيمة كبار السن، تجد الرجل العجوز يجُرُّ عربة الأكسجين الخاصة به ذاهباً لمكانٍ ما، مارّاً بشاب يحمل سيرته الذاتية متجهاً نحو مقابلة عمل وهو يعلم مسبقاً وجيداً بأنه لن يحصل على تلك الوظيفة. هناك قد تجد أيضاً موظفاً يمشي مسرعاً لِلَّحاق بعمله الذي قد لا يحصل على راتبه منه في موعده أولا يحصل عليه أساساً، أو قد يحصل على جزءٍ بسيطٍ منه. في تلك اللوحة الفنية يرسم الإحباط والألم نقطة تقاطع بين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين الأمل والتشاؤم والاصرار. 

 

هناك حيث ازدحام السيارات والعربات قد تَلمحُ قطعةً قماشية بالية في يد طفل صغير قد لا يعلم أين هم أبواه، أو قد يكون قد خسر أحدهم في الحرب، تجده يمسح أحلامه على زجاج السيارات، أو قد يبيع شيئاً ما، علَّه يحصل على شيء في المقابل ليحضر قوت يومه. حين تستمر في التجوال ستجد أطفالاً يداعبون الرمال بأناملهم الصغيرة بانين بيوتاً صغيرة تختبئ بداخل كلٍّ منها براءة وشجن وشقاوة. في المساحات الخضراء الواسعة، هناك الفلاح الذي يستيقظ باكراً متحدياً الطقس والتراب الملوث ونقص الموارد، زارعاً بذرة صغيرة بيده التي تشهد خطوطها مواسم الحمضيات والزيتون والخضروات وغيرهم.
 

هنا
هنا "في غزة" تستيقظ الحياة كل يوم من بين ركام المنازل وأصوات المآذن وأضواء الإنذارات معلنةً تحدي الواقع المرير. هنا حيث يوجد حل لكل مشكلة
 

لا تستغرب لو رأيت رايات كثيرة، الصفراء والحمراء والخضراء، فهم كثر ولكن حين يشتد الوطيس تجدهم يصابون بعمى الألوان ويصبحون لوناً واحداً. لو اتخذت من سيارة الأجرة وسيلة للمسير ستستمع في المذياع لصوت أمّ مُنهكة تتوسل الأيام بكلماتٍ دافئة ترسلها لابنها الأسير، تسأله عن أحواله وتخبره كم تشتاق إليه وكم ترغب باحتضانه حتى ولو ثانية. قد ترى منزلاً مهدّماً قد أصبحت أحجاره أعشاشاً للطيور وأماكن يلعب بها أطفال الحي "الأستغماية". علك تعثر على شخص يتحدث مع نفسه، لا تقلق هو لا يحتاج لطبيب نفسي، هو فقط يَعُدُّ ما تبقى من الشهر ليرى إذا ما كان باستطاعته تلبية احتياجات أسرته.
 

هنا تستيقظ الحياة كل يوم من بين ركام المنازل وأصوات المآذن وأضواء الإنذارات معلنةً تحدي الواقع المرير. هنا حيث يوجد حل لكل مشكلة. هنا حيث يُستخدم زيت الطبخ للسيارات في حال انقطع الوقود عن المدينة. هنا حيث تُستخدم المصابيح اليدوية ورومانسيةُ الشموعِ لغرضٍ اضطراري حين ينقطع التيار الكهربائي. هنا حيث رجال عاطلون عن العمل يجتمعون مساءً حول النار وينشغلون بالنقاشات السياسية ومشاقِّ الحياة.

هنا حيث يحبُّون الحياة ما استطاعوا إليها سبيلا، يلوِّنون الجدران، يطلقون الفكاهة في الحرب ومن بين أصوات المدافع، يتحدَّون الموت، يَدْرُسون ويتعلمون. تجدهم واقفين بكل قواهم في الميناء يجرُّون شباك الحظ علها تكون سمكة ذهبية هذه المرة، يعمِّرون في الأرض رغم الدمار ويحلمون بغدٍ أفضل، ولا يفقدون الأمل.

هنا يعيش الشعب الأكثر سعادةً رغم تعاسته، تسعدهم أبسط الأشياء، لا يغريهم الثراء والتفاصيل المثيرة للجدل. هنا حيث تتجول في الأسواق ما بين بائعٍ ومشترٍ ومنادٍ وطعامٍ وملابس وحلوى. هنا حيث تتنقل بين المراكز العلمية والنوادي، ما بين مثقَّف ومتعلِّم ومتشدِّد ومتحرٍّر وملحد. الحياة بأشكالها موجودة في غزة، مختلفة بلونها وطعمها، لا يوقفها شيء. غزة حيث العجوز الذي يلتحق بالجامعة، حيث الفتاة الصغيرة التي تخوض مناقشات سياسية. إذا أردت تعلم الحياة عليك بغزة، وإذا أردت رؤية البؤس بأقدام متحركة عليك بغزة. وكما تقول رفيف زيادة: "هم يعلِّمون الحياة يا سيدي؛ يستيقظون كل يوم ليعلٍّموا العالم بأسره.. الحياة، يا سيدي".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.