شعار قسم مدونات

يوم ستغادرين بيت أبيك

Blogs- wedding

نقول دائما أن الفتاة سر أمها نظرا للعلاقة التي تنشأ بينهما منذ اليوم الأول، علاقة عميقة يغذيها ماهو أكثر من الحب و لا ينهيها شيء في الدنيا بسبب ذلك التشابه الكبير بينهما، علاقة لا تقطع مع الحبل السري أو المسافة أو الزمن، تظل البنت في كنف أمها تعلمها كل الأشياء الجميلة من نطق الحروف إلى تنسيق الألوان مرورا بالمطبخ والأذواق واللباس والأمومة والأخلاق والذوقيات.

 

تربي الأم طفلتها رغبة منها في جعلها شخصا أفضل منها، أقوى منها، أنجح منها وأشجع منها، تريدها أن تحقق ما لم تحقق هي خلال حياتها، أن تكون مستقلة وقوية وتبني في نفس الوقت أسرة وتنجب أطفالا لتستمر سنة الحياة التي بدأت منذ قرون خلت. كل أم تحاول جاهدة أن تصنع من ابنتها تلك السيدة المثالية التي لا يعيبها شيء، تلك "الست" التي يحترمها الناس ويحبونها لأنها ناضلت وحققت الكثير. نبوح بمخاوفنا وأسرارنا لأمهاتنا، نحكي لهن عن كل الأشياء، نغرقهن بالأسئلة المحرجة يوم بلوغنا وعند تغير تضاريس جسمنا، نثقلهن بالأسئلة التي نعلم مسبقا أنهن سيجدن لها جوابا.

 

هكذا نقضي نحن النساء وقتا طويلا جدا تحت جناح أمهاتنا العظيمات اللواتي ضحين بالغالي والنفيس إلى أن نطير من العش الذي ولدنا فيه إلى عش آخر لنبدأ فيه صفحة أخرى ونهب فيه الحياة بدورنا. بينما لا تتجاوز علاقتنا مع آبائنا ذلك القالب التقليدي الذي يغلب عليه الاحترام الشديد، لا يجتهد الطرفان في إبداء مشاعرهما النبيلة اتجاه بعض مهما كبرت، نكتفي بقبلة على اليد أو الرأس في الوقت الذيكنا نتمنى فيه حضنا أبويا يمسح عنا الهموم والأحزان، ماتقدم منها وما تأخر.

 

غالبا ما تودعنا أمهاتنا يوم زفافنا بالدموع عند باب البيت ونحن نلبس الفستان الأبيض الذي طالما حلمنا به. تبكي الأمهات بشدة لأنهن تعلمن أن الحياة صعبة وأن فلذات كبدهن ستفرحن كثيرا وتبكين كثيرا، ستسقطن وتقمن بعيدا عنهن. لن يكون بإمكاننا أن نسألهن كل يوم عن مكان وضعنا لوشاحنا الأحمر وسروالنا الأزرق الغامق، سندخل بيوتنا ونفتح الثلاجة دون أن نجد طبقنا المفضل الذي ينتظرنا والذيغلفته بعناية لأنهن تدرين كم نحبه.

 

ذلك الأب الذي أضنته الحياة وجعلت منه شخصا باردا في الظاهر لكنه لم يخف في حياته قط أكثر من خوفه على عصفورته الصغيرة
ذلك الأب الذي أضنته الحياة وجعلت منه شخصا باردا في الظاهر لكنه لم يخف في حياته قط أكثر من خوفه على عصفورته الصغيرة
 

أمام عيون الجميع تذرف مقل الأمهات أنهارا من الدموع، بينما يتوارى الأب في مكان مظلم ليبكي كطفل على صغيرته التي ستذهب دون عودة إلى بيت رجل آخر قد يحسن إليها وقد يسيء. قد يحبهاويعزها، قد يخاف عليها لكن لن يبلغ خوفه عشر خوف أبيها عليها.

 

ذلك الأب الذي أضنته الحياة وجعلت منه شخصا باردا في الظاهر لكنه لم يخف في حياته قط أكثر من خوفه على عصفورته الصغيرة، ربما لم تكن العلاقة بينهما حارة جدا، لم يخرجا إلا في نزهات أسرية عادية، لم يرتشفا كوب قهوة على انفراد يوما، لم تحكِ له عن أحزانها ومخاوفها لم تبك في حضنه كما كانت تحلم، لم تحكِ له عن كيد الرجال والنساء والحياة بصفة عامة، لكنها كانت بمثابة عينيه اللتي نرى بهما ألوان الكون، وكان بطلها الخارق الذي يفزعها غيابه ويضنيها مرضه.

 

وضع قبلة حارقة ممتزجة بدموع لا تقل حرارة على جبيني قائلا "اليوم تنتهي مهمتي يا بنيتي، اعذريني إن لم أكن يوما عند حسن ظنك.. اعتني بنفسك وبزوجك.. الله يرضي عليك" كانت هذه الكلمات كفيلة بإغراقي في دموعي، كانت دموعنا نحن الاثنين قادرة على إغراق تلابيب فستاني وإغراق روحي في حفرة من نار الشوق إلى أب لم أشبع من حضنه ولا حديثه يوما. بكيت أكثر مما كنت أتصور، بكيت لأنني كنت عاجزة عن التعبير عن حبي له وامتناني، عن الود الذي أكنه له، وعن مدى إعجابي به لأنه بدأ حياته من الصفر وثابر وجاهد ليبني أسرة متماسكة دون أن يشتكي أبدا، أطعمنا حلالا وربانا على القناعة وبذل الجهد في سبيل تحقيق الأحلام.

 

بكيت يومها كثيرا، أكثر مما كنت أتوقع، لأنني شاهدت دموع أبي تُسكب كالمطر في ليلة غاب عنها القمر، أنا أصلا لم أتوقع يوما أن أبي سيبكي بتلك الطريقة لأنني خلته رجلا لا يبكي. بكيت لأنني لم أوفيه حقه، ربما لم أكن الابنة المثالية يوما، ربما جرحته بكلمة لم يكن عليها أن تخرج من فمي لحظة غضب أو طيش، ربما أضنته طلباتي واضطر إلى طرق باب شخص يقرضه شيئا من المال كي لاأضطر إلى الانتظار أكثر من ساعات قليلة.

يوم غادرت بيت والدي عانقت أمي وبكينا، كما فعلنا مرات كثيرة يوم نجاحي ويوم مرضي، أيام أفراحي وأتراحي، لكنني لم أتوقع أن ذلك الرجل الكهل الذي غزا الشيب شعره ولحيته وخطت التجاعيد وجهه وأضنت عينيه الخضراوتين اللتين لم يقل بريقهما مع مرور الزمن أن يعاملني ويبكي بتلك الطريقة.

 

نظر إلى زوجي وقال له وهو يحاول إخفاء الحشرجة التي تسبب فيها البكاء
نظر إلى زوجي وقال له وهو يحاول إخفاء الحشرجة التي تسبب فيها البكاء "هي قطعة مني، إن آذيتها فكأنما آذيتني، لا تؤذها من فضلك، ستؤذي روحي حينها"
 

لم أنتبه إلى خطواتي حينها، كانت كلمات أبي تسكنني، انتفضت ذكريات قديمة من العدم، من ذاكرتي التي نسيت، يوم علمني حروف الهجاء، وساعدني على قراءة الأخبار وأسماء الممثلين التي تمر على شاشة التلفاز، يوم كان يلاعبني لعبة الأصبع الذي سرق بيضة، عندما كان يصنع ضفيرة من شعري قبل أن يصطحبني إلى المدرسة يوم كانت أمي مريضة، يوم أحضر لي شريط الست فيروز دون أن أطلب منه ذلك لأنه كان يعلم أنني أحبها، عندما كنت أَجِد شوكولاطا اللوز تحت وسادتي وقصتي المفضلة فوق سريري.

 

وكأن تلك الدموع التي انبثقت في تلك اللحظة كانت كفيلة بكسر طوق من الجليد ترسب مع الأيام والصمت واللامبالاة اللاإرادية والخجل من البوح بحبنا الكبير لبعضنا. أنا التي لا أعدو أن أكون إلا جزء لايتجزأ منه. شق أبي ذلك الزحام الذي يرافق زفة العروس إلى السيارة، وضع يده على كتفي وحضنني بكل الحب الموجود في العالم. استسلمت لحضنه كطفلة صغيرة متعبة أمضت يومها تبكي بكاء حارا بدون سبب.

 

نظر إلى زوجي وقال له وهو يحاول إخفاء الحشرجة التي تسبب فيها البكاء "هي قطعة مني، إن آذيتها فكأنما آذيتني، لا تؤذها من فضلك، ستؤذي روحي حينها" عاد أدراجه كما جاء وسط الزحام، اشتغل محرك السيارة، وضعت يدي على زجاج نافذة السيارة ألوح وقواي منهكة إلى الرجل الذي أعطاني كل شيء ولم يطلب شيئا أبدا، إلى ذلك الرجل الذي اشتعل الشيب في لحيته لأفيض شبابا وجمالا وصحة.

 

غادرت يومها بيت والدي لأكتشف يومها وبعد أكثر من عشرين سنة من الحياة أنني تركت رجل حياتي الذي كنت أتمنى دون علمي أن أحظى بزوج لا يقل عنه حنانا ورجولة وشهامة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.