شعار قسم مدونات

التمثلات الخاطئة حول القانون.. نقد العقل القانوني المغربي (4)

blogs القانون

يحمل رجل القانون في عقله تناقضات وآفات واضحة وجلية، هذه التناقضات والآفات تتحكم بالعقل القانوني المغربي وتستبد به، وتجعله يعبد النص أيما عبادة، ولما تواجهه بالاستشكال في نص معين أو ممارسة المعنى عليه، ينتفض أمامك ويعارضك في طرحك، بدعوى انفصال القانون عن أي علم آخر، بل يدعي أن النصوص هي علم مستقل، ولو حاولت أن تظهر له فساد دعواه لما أقنعته أنه لو أراد أن يضفي على النص القانوني علمية فإنه متصل باللغة والمنطق المؤديان إلى صياغة للنص وتفسير له أثناء الممارسة، ويمكن ربط هذه الأزمة العلمية لرجال القانون بإهمالهم للنظرية القانونية، أو قل الإطار النظري الممزوج بالنص وبروحه وبممارسته، فتلف رجل القانون عدة آفات:

الآفة الأولى:

من الأمور الغريبة فيما يطلقون عليه مدخلا لدراسة القانون هو الإكثار من الفروع والإحجام عن الأصول، لذلك لما تقرأ أحد هذه الكتب تجد صاحبها قد استفاض في الكلام عن مفهوم القاعدة القانونية وتمرير ما تيسر من المسلمات الدغمائية، ثم يمر إلى المصادر فالأنواع في إطار دغمائي يمرر الكلام النمطي، لكنه يقتضب فيما كان يجب أن يستفيض فيه، فتراه يتناول التفسير في وريقات لا تفي بالغرض، وهذه آفة زادت من أزمة علم القانون، إذ التفسير والقواعد الميسرة لفهم النص هي الأهم في تكوين الطالب الكينوني.

الآفة الثانية:

وهناك آفة أخرى تلف الدرس القانوني لفا، وهي تدريس الشريعة الإسلامية لطالب القانون بطريقة نمطية منفصلة عن أصولها، فتدرس إليه خصائصها ومصادرها وما تيسر من الأمور الكاشفة لمفهوم الشريعة، فيصعد طالب القانون في مراتب القانون لا يكاد يفرق بين الحكم الشرعي والدليل الشرعي، والفقه والشريعة.

التأويل هو عملية عقلية استدلالية تنبني على إنشاء حكم متكامل الأركان من خلال ألفاظ لا تسع الواقعة، فكما يقال فالتأويل هو تطويع النص القانوني لتحقيق العدالة
التأويل هو عملية عقلية استدلالية تنبني على إنشاء حكم متكامل الأركان من خلال ألفاظ لا تسع الواقعة، فكما يقال فالتأويل هو تطويع النص القانوني لتحقيق العدالة
 

إن الدعوى الرامية إلى نقد الفروع الفقهية من داخل الدرس القانوني تتناقض مع ما يدرس للقانوني منن أحكام نمطية فرعية لا تفي بضبط الأصول والمناهج الأصولية ضبطا كافيا، فنقد الفروع والآراء الفقهية يتطلب تمحيص مناهج الفقهاء لا استعراض الآراء فقط والتأريخ لها والربط بين التواريخ والأحداث. فالاستنتاج أو الاستنباط الفقهي محكوم بقواعد أصولية ومنطقية، لغوية، وإذا ما قرر المرء نقد الرأي الفقهي فيجب عليه:

* أن ينظر أولا في الطريق والسبيل المؤدي لوصول الفقيه لذلك الرأي حتى يتمكن من نقد المنهج لا الفروع المستنتجة عن طريق المنهج.

* ثانيا عليه أن يعمل على تقديم النقد في إطار قواعد الاستدلال قديما وحديثا من خلال إثبات أن الرأي الفقهي يعتريه الخطأ، ثم نقده والاعتراض على بعض وجوهه حجاجا واحتجاجا، حتى لا يكون كلام الناقد تحكمه الأهواء والعنف والإيديولوجيا.

ولا يكون هذا النقد أو الفحص والكشف إلا بضبط أصول الفقه ضبطا في ضوء ما أُستجد من مبادئ اللسانيات خصوصا التداولية وما توصل إليه علماء اللغة والمنطق من نظريات في الحجاج والبلاغة والتأويل، اذ ذاك تنكشف للمرء الأمور، وتتجلى له الأحكام والفروع، وتتفتح بصيرته وقريحته القانونية الحديثة.

الآفة الثالثة:

ترتبط بالإطار النظري، الجمعي الذي يحمله الطالب في ذهنه. فيتوهم أنه لا فرق بين التفسير والتأويل، وهذه من المغالطات التي يحملها رجال القانون. فترى أحد الباحثين يعنون أطروحته ب "تأويل القاضي الإداري لقواعد القانون الضريبي" ظنا منه أن التأويل هو ما فسره القاضي الإداري من نصوص قانونية، لذلك تراه قد انبرى نحو مدارس التفسير وقد سماها بمدارس التأويل، ولو اطلع – القارئ لأطروحته – على المراجع المعتمد عليها ستجده لم يعتمد على مرجع مهم في التفسير عموما والقانوني على وجه الخصوص باستثناء كتاب وحيد والمسمى بنظرية تفسير القانون، وهذا تناقض صارخ بني على جهل بالمبادئ.

مهمة التفسير؛ هي الكشف، ومهمة التأويل هي الإنشاء، والأول ممارسة طبيعية تلقائية يمارسه المشرع والقاضي والفقيه، وأما التأويل فعملية اجتهادية معقدة ولا يمكن تصورها من قبل المشرع

فالتفسير عند ابن منظور هو كشف المراد عن اللفظ المشكل ص. 172، والتأويل هو إصلاح المعاني إذا أشكلت بلفظ واحد، ويرى الفقهاء أن التفسير هو بيان ظاهر اللفظ اللغوي والتأويل بيان باطن اللفظ (ابو طالب الثعالبي، السيوطي في الاتقان ج 2، ص. 176)، ويتجه الشافعي في رسالته إلى تقديم فرق مهم بينها فالتفسير يكون على جهة الجزم وأما التأويل فيكون على جهة الظن، يقول ابن رشد عن التأويل: "… ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية…" (ابن رشد، كتاب فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، ص. 22.) 

ولو تعمق المرء فيما كُتب في التفسير والتأويل لدى الفقهاء المسلمين ستجدهم يفرقون بين عمليتين:

* العملية الأولى؛ أي التفسير والتي تتميز بنوع من النمطية في الكشف عن مراد النص من خلال ألفاظه وفي حالات نادرة من معانيه (كالكشف صراحة عن مراد المشرع في الفصل 461 من ق. ل. ع الذي ينص على الاعتماد على الألفاظ في تفسير العقد لا تأويله).

 

* العملية الثاني؛ أي التأويل فهو عملية عقلية استدلالية تنبني على إنشاء حكم متكامل الأركان من خلال ألفاظ لا تسع الواقعة (كمن يضع الاستثناءات على الفصل 1 و62 من التحفيظ العقاري في تأويله هذين الفصلين تأويلا يبتغي منه أنصاف الخلف الخاص في التخفيف من حدة قاعدة التطهير، بل محاولة إنشاء حكم مضمر في النص)، فكما يقال فالتأويل هو تطويع النص القانوني لتحقيق العدالة.

إذن فمهمة التفسير؛ هي الكشف، ومهمة التأويل هي الإنشاء، والأول ممارسة طبيعية تلقائية يمارسه المشرع والقاضي والفقيه، وأما التأويل فعملية اجتهادية معقدة ولا يمكن تصورها من قبل المشرع. (يراجع أديب الصالح تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، وراجع الداودي بن بخوش تأويل النصوص في الفقه الإسلامي، ورسالة للشافعي، والموافقات للشاطبي، نظرية تفسير النصوص المدنية لمحمد شريف أحمد، الحجاج في الخطاب القانوني عز الدين ناجح، دراسات تداولية في أصول الفقه لسعود بن عبد الله الزدجالي).

ولو ابتعد صاحب الأطروحة قليلا عما هو شائع، وتناول كتابا عاما في فلسفة التأويل أو الهرمينوطيقا، وليكن كتاب التأويلية لبول ريكور فسيجده يقول أن التأويل هو: "… كل تعبير يتصف بظاهرة المعنى المزدوج double sens، التي تحيل الحرفية على معنى ثان لا يمكن إدراكه إلا بالإحالة من معنى أول إلى معنى ثان …" ص. 9.

ويرى دافيد جاسبر أيضا في كتابه مقدمة في الهرمينوطيقا: "… القراءة ليست مجرّد البحث عن المعاني، في النصوص، بل هي أيضا أنحاء التأثير الذي تتركه فينا النصوص، إذ يمكنها أن تغضبنا أو تخيفنا أو تعزينا، فهم النص متغير باستمرار … " ص. 22.

ويذهب غادامير أحد أهم المتخصصين في الهرمينوطيقا في كتابه فلسفة التأويل: "… ينبغي أن ينتبه القارئ إلى تحيزه حتى يتمكن النص من ظهور في غيريته والحصول على إمكانية الكشف عن حقيقته المتوارية في مواجهة رأيه المسبق الخاص … "، كما أن هيدغر أستاذ غادمير يرى في كتابه الانطولوجيا هرمينوطيقا الواقعانية أن التأويل هو: "… البحث المشروع في المعنى المكتشف …" ص. 46.

الآفة الرابعة:
الفقه الإسلامي لا يميز بين المفتي والقاضي فيعتبرهما فقهاء، بحيث يعتبران فقهاء لأنهما يستعملان نفس طرق ومناهج الاستنباط التي تؤهلهم لأن يكونوا كذلك، وإنما يكون التمييز في الأثر الذي يحدثه حكم القاضي وفتوى المفتي

وهي أن الأوساط الأكاديمية – أساتذة وطلبة – قد اجتاحتها آفة بئيسة وهي "آفة التشبه بالفقهاء ظاهريا وليس التشبه المنهجي، الباطني"، ونعترض على هذه الآفة بالكلام التالي:

يعد مصطلح الفقه؛ عاما أشمل من عمل القاضي وإنجازيه الأستاذ، فالفقيه؛ هو من حصل آلة الاستنباط والاجتهاد سواء كان أستاذا جامعيا، قاضيا أو باحثا، وللأسف انقلبت اليوم المفاهيم على عاقبيها فلم نعد نميز بين الفقيه المجتهد والأستاذ المقلد، فأصبح كل الأساتذة فقهاء، وهذا خطأ واضح لا لبس فيه، وجهل ظاهر لا غموض فيه.

إذ يمكن أن يكون القاضي فقيها والأستاذ مقلد تابع له، ويمكن أن نلحظ هذا لما نرى ما يكتبه الأساتذة الشكلانيون من كلام تابع لتوجه القضاة، بل الأستاذ اليوم ضيع بوصلة العلم والتنظير بانغماسه الأعمى في الممارسة دون تأطيرها نظريا أو الاستنباط منها قواعد أصولية تحكم المجال فتضع النظريات.

والفقه الإسلامي لا يميز بين المفتي والقاضي فيعتبرهما  فقهاء، بحيث يعتبران فقهاء لأنهما يستعملان نفس طرق ومناهج الاستنباط التي تؤهلهم لأن يكونوا فقهاء، وإنما يكون التمييز في الأثر الذي يحدثه حكم القاضي وفتوى المفتي.

لكن للأسف اليوم ببلاد المغرب أصبح جل القضاة والأساتذة مقلدة، فلا يجوز أن نطلق عليهم مصطلح فقيه لأن الفقيه ليس من يعرف النصوص معرفة العامي بها، وإنما يجب أن يحصل طرق الاستنباط والمنطق واللغة حتى يجتهد أن ظهر له ذلك، إذ الفقه؛ هو الفهم، والفهم لا يكون إلا بطرق الاستنباط، والقضاة اليوم لا يستعملون طرق الاستنباط إلا لماما. (لكن الأساتذة اليوم كذلك ينطلقون من النص انطلاق العامي أو قل تقنيون وشكلانيون).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.