شعار قسم مدونات

ضقتُ ذرعاً من البشر!

blogs الضيق

دَعُونا وشأنَنا في ترتيبِ أولويّاتنا، دعونا وشئننا في ترسيخِ مبائدنا، وتوجيه أنفسنا وإدراك مفاهيمَ مختزلةٍ في الوجود، تطالبونَ بالانفتاحِ لتحقيقِ التقويمِ والترتيبِ والتنظيمِ والاحترامِ والنجاحِ والجمال.. وتنسَونَ أنّ كل ذلك مصدرُه العقيدةُ الحيةُ في قلوبِنا فكيف تطالبونَ بالكماليّاتِ وتنسَونَ الجذورَ التي حين تُؤصّل تصبحُ الأشياءُ الأخرى التزاماً ومنهجاً..

 

أخافُ يوماً لا يعود لنا فيه ارتباطٌ بشيء، فماذا لو فقدنا عقائدَنا، معتقادتِنا، إيمانَنا، ومبادئَنا، فلأي الأشياء تكون انتماءاتُنا؟ إن اختفى كلّ ذلك فينا ماذا يتبقى منا؟ بضعةُ أشلاءٍ وتجزيئاتٍ وأحزابٍ مجزئةٍ ومجردةٍ من الاحساسِ والمنطق…

 

ضقتُ ذرعاً من البشر، ضقتُ ذرعاً منَ القسوةِ والتجردِ من الإنسانية، من مواساتِنا لمَن يمتلكُ جمالاً ومالاً ونفوذاً، وتغاضينا عمّن يحتاجُنا حقّاً، ضقتُ ذرعاً مِن شعورِنا بالقوةِ لمجردِ وُجودِ المادّياتِ التي لا تُسمنُ ولا تُغني مِن جوع، مع وقوفنا إلى جانب مَن يملكُ من الأشياءِ لا الخصائصِ والمكارم.. ونقدسُ الأشياءَ تلك التي لا تدومُ فتنضَب، تلك التي تسرُّ الأعينَ وتشقي الأناة والجشع والمكر والمطمع، تلك التي لا تسرُّ الأنفسَ التوّاقةَ للحياةِ، للمسؤوليةِ، للجَمالِ الحقيقيّ الذي لا يُرى بالعينِ المجرّدة، ولا يزولُ ولو زالت كلُّ الأشياءِ السطحيةِ المرئيةِ التي يغفلُ عنها كثير من البشر ويتناسونَها..

الجمالُ الحقيقيُّ الذي أينما وُجد نحاول انتقاصَه، نحاولُ استغلالَه وتحطيمَه وتجريحَه بألسنتِنا.. ونعتقد أن ما يسعدُنا هو المادياتُ المشوهةُ، الزيفُ لا الحقيقة، فنصبح وكأن ما يجعلنا ننظرُ للأشياءِ هي مظاهرُها لا مكامِنُها

ضقت ذرعاً ممن يحاولُ فصلَنا عن معتقداتِنا وعقيدتِنا فينبش فيما لا ينفع ليشكّكنا في كلّ شيء فينا، ضقت ذرعاً من البشرِ الذين يحاولونَ انتقاصَ قَدرنا لأنهم تعِبوا من رؤيتِنا محاولين بشقّ الأنفس للحفاظ على ما تبقّى من رمقِ الحياة في كينونتِنا، وكأننا نُشعرهم بالقلقِ أو بالحيرة، فيتلذذونَ في اقتناصِ الفُرَص للنيلِ منا بألسنٍ سليطةٍ أو أفكارٍ مُريبة… نحن لغزٌ لا يستطيعون حلّه ولو كرهوا توجّهنا إلى النورِ الذي هدانا ورزقَنا الهدايةَ فهُدينا طوعاً وحباً..

 

أنت تملكُ منَ المالِ ما يُبقيك غنيّاً لسنينَ عديدةٍ، الغنيُّ غنيُّ النفسِ يا صديقي، فالمالُ لا يدومُ، ولو دام سنيناً، يرحلُ فورَ انتهاءِ مدتِه وانقضاءِ زمانِه.. لا يعني أنكَ حصلتَ على أعلى درجاتِ العِلم وشهاداتٍ عُليا أنكَ بذلك قد سلّحتَ نفسكَ بالعلم، فسلاحُك هذا لا يفيد إن كنتَ فظّاً غليظَ القلب، أو كنتَ لا تملِكُ احتراماً لنفسِك أو لمنزلتِك، فتتصنّعُ الأخلاقَ ولا تملكُها.

 

الشهاداتُ مجرّدُ لوحاتٍ تعلّقُ على الجدرانِ أو تُقدّم للمؤسساتِ لتحصلَ على رِزقك، ولكنّها لا ترفعكَ، ولا تجعلُكَ أكثرَ رفعةً وعلوّاً ونجاحا عمّن لا يملِكُها، الأخلاقُ تفعل هذا، محبةُ الناسِ لصدقِك وتفانيكَ في عملِكَ، وانقضاءُ سنواتِ عُمُركَ بالقربِ من زوجتكَ وأولادِكَ وتقديرُ سُمعتِكَ ومهنتِكَ وإدراكُ نِعَمِ الله عليكَ يفعلُ هذا، ليس الحصولُ على الشهاداتِ المعلّقةِ ينفعُك حين تشيخُ أو ترحل..

 

وإن قمتِ بتجميلِ نفسِكِ منَ الخارج، فاعتنيتِ بنظافتِكِ ونَضارةِ وجهِك، وارتديتِ أجملَ الملابس، وسرّحتِ شَعركِ عند أفضلِ مصفّفي العالم، ووضعتِ أغلى مساحيقِ التجميلِ ليجعلَك تبديين أصغرَ سِنّاً، وربّما قمتِ بعملياتِ التجميلِ لتجعلَكِ أكثرَ جمالاً، وننسى أنه جمال مُنتهٍ ذائبٌ منقضٍ شائخٌ زائفٌ وراحل.

الاعتناءُ بالجمالِ يكونُ من الداخلِ كما يكون مِنَ الخارج، يقولون إن الجَمالَ جَمالُ الروحِ، وأنا أقولُ إن الجمالَ يعمل به، يشتغل عليه، فكما تسعى لتجميلِ نفسِك منَ الخارج فاعمل على تجميلِه تماماً منَ الداخل، ما يُجمّلُ قلوبَنا هو الحبُّ للخالقِ الذي سوّانا فأبدعنا، للخالقِ الذي رزقَنا جمالاً داخليّاً فِطرياً، ونوراً يشرق على محيانا فيشع دنيانا فيرضينا مهما كبرنا أو كبرت ملامحنا..

الجمالُ الذي مكانُه القلبُ لا يرحل، الجمالُ الذي يرضيكَ فترضى، لا يفنى، الذي لا ينتقص منكَ ولا ينقص، الجمالُ الأولُ الذي فُطرنا عليه فأمطرنا بالرحمة والعناية
الجمالُ الذي مكانُه القلبُ لا يرحل، الجمالُ الذي يرضيكَ فترضى، لا يفنى، الذي لا ينتقص منكَ ولا ينقص، الجمالُ الأولُ الذي فُطرنا عليه فأمطرنا بالرحمة والعناية

 

ما نفع أن نقضي الوقتَ بتجميلِ أنفسنا مِن الخارج، ونلتفتُ إلى الجمالِ الخارجيّ في البشر، وننسى ماذا يكمُنُ هناك في داخلِ النفسِ البشرية، في الأرواحِ التي تتآلفُ فاجتمعت قبلا منا، ولكنّنا لم ندركْها في الدنيا؛ لأنّنا لم نقدم عليها..

الجمالُ الحقيقيُّ الذي أينما وُجد نحاول انتقاصَه، نحاولُ استغلالَه وتحطيمَه وتجريحَه بألسنتِنا.. ونعتقد أن ما يسعدُنا هو المادياتُ المشوهةُ، الزيفُ لا الحقيقة، فنصبح وكأن ما يجعلنا ننظرُ للأشياءِ هي مظاهرُها لا مكامِنُها. وينضبُ كلّ ما سبق في لحظةِ عمرٍ لم نكن مستعدّين لها، ولم يكن باستطاعتنا أن نُبقي الجمال حيّاً..

 

فيأتي يومٌ يجعلُنا نؤمنُ بأنّ كلَّ الأشياءِ إلى نهاية، كل الأشياءِ في انقضاءٍ إلا نورُ الجمالِ الذي يشعُّ من القلبِ، نوره سبحانه.. الجمالُ الذي مكانُه القلبُ لا يرحل، الجمالُ الذي يرضيكَ فترضى، لا يفنى، الذي لا ينتقص منكَ ولا ينقص، الجمالُ الأولُ الذي فُطرنا عليه فأمطرنا بالرحمة والعناية.. فكل الأشياء لا تدوم وما عند الله دائم..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.