شعار قسم مدونات

الأوراق الصفراء.. الروح الانقلابية في صفوف الإخوان المسلمين

blogs - Mohamed Mursi Muslim Brotherhood

منذ نشأتها، كانت ولم تزل شمولية دعوة الإخوان المسلمين هي مركز جاذبيتها التي شَدَّتْ إليها الناس جميعًا، إمّا مؤمنين وإمّا دارسين وإمّا مهتمين ومعجبين ومتابعين.. وقد كان الشيخ حسن البنّا مُوَفَّقًا أيَّما توفيق حين حَدَّدَ معالِمَ التجديد الشمولي في دعوته التي تميّزت بكونها «دعوة سلفية، وطريقة سُنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية»؛

 

وقد لَبَّت هذه الشمولية تطلعات المجتمعات المسلمة بمختلف مستوياتها العلمية والفكرية والثقافية في غير مكانٍ من العالم، إذْ طرحت صيغة للتماسك الأخوي الإسلامي وسِعَت الناس جميعًا.. وَقَدَّمَت تصوراتٍ متميزة لكلٍّ من المجتمع والوطن والدولة والأمة والعلاقات الدولية.. وظلت الجماعة تجاهد في هذا الاتجاه وتكابد من أجل إيجاد العنصر البشري الصالح لتجسيد هذه الشمولية في صورة عملية عبر مستويات الترابط الاجتماعي للمؤمنين بصلاحية هذه الدعوة، وكانت من ورائهم قطاعاتٌ شعبية عريضةٌ تؤازرهم انتسابًا وانتماءً وعملاً أو حُبًّا وتعاطُفًا وتعاونًا وتأييدًا..

 

وفيما يركّزُ التأسيس الفكري للإخوان المسلمين على مبدأ التغيير بالتربية عبر تراتبية روحية واجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية متهادية! لم يكن للبُعْدِ العسكري أو الجهادي حضورٌ في هذه التراتبية إلا استجابة لتحديات مرحلية فرضتها ظروف التواجد الاستعماري لبلادنا، وقد أعطى هذا البعد الأخير زخمًا هائلاً لفكرة الإخوان المسلمين في عموم الشارع العربي والإسلامي كلما ازداد شعوره بشدة الاستلاب وحِدَّةِ الاستقطاب.. الأمر الذي أثارَ على الإخوان كثيرًا من المشكلات ليس من جانِبِ خصومهم، الذين رأوا فيها تهديدًا لوجودهم، في الداخل والخارج فحسب، بل وأثار عليهم بعضًا من أنصارهم فيما بعد ولكن بحيثياتٍ أُخرى!

 

وأصبحت الدعوة تتحمل كافة فواتير الأخطاء السياسية، وتتعثّر في مطبات العمل السياسي، وينوبها النصيب الأوفر من نكساته وتراجعاته وإخفاقاته برغم التحذير المبكر من الخلط بين الحزبي والدعوي

وعبر قرابة قرنٍ من الزمان، مَرَّت جماعة الإخوان في مصر بتحدياتٍ عديدة تفاوتت في شِدِّتها وَحِدَّتِها.. بيد أنَّ الطور الأخير كان الأشد حِدّةً عبر تاريخها، إذْ جاءت غالبية التحديات هذه المرة من داخلِ الصفِّ لا خارجه! وأنا هنا أُعَوِّلُ في تحليلي على فِعْلِيَّةِ الذاتيةِ الإخوانية، قوةً وضعفًا، في مواجهة تلك التحديات، لأنَّ ضعفَ الصف الإخواني الذاتي، في تقديري، هو سبب نكسته الأخيرة!؛ ذلك بأنَّ المكاسب السياسية التي حققها الإخوان خلال الخمس سنوات الأخيرة على الساحة السياسية في مصر وتصدرهم المشهد لم تكن علامة قوة، بقدر ما كانت علامة ضعف صَفِّيٍّ خَفِيٍّ له جذوره وحيثياته القديمة نِسبيًّا..

 

قد يذهب البعضِ إلى تكثيف الملامة على القيادات.. إمّا لاعتقاده بضعفها، وإمّا لنقص الكفاءات التخصصية فيها، وإمّا لاعتمادها على الثقة دون عناء البحث عن الكفاءات التي لا تُخطئها عَيْنٌ في مختلف المجالات!

 

وقد يكون مُبَرِّرُ البعض أنَّ الجماعة إنما أولت أهل الثقة للنهوض ببعض الملفات استنادًا إلى معطيات تلك الفترة التي أعقبت خروجهم من السجون الناصرية في مطالع سبعينيات القرن العشرين، ولم يكن «في الإبداع أبدع مِمّا كان».. ولكن ما لبث الأحوال حتى تغيرت تطورت وتوفرت من الكوادر والأطر في مختلف التخصصات حتى لا تبقى حُجَّةٌ لمتعلل بما كان قصور أو تبرير ما هو كائنٌ من ضَعْفٍ..

 

وسأحاول فيما يلي إلقاءَ بعض الأضواء على مجموعة من نقاط الضعف، من وجهة نظري، التي أضفت على أوراق شجرة الإخوان المسلمين ذبولاً واصفرارًا:

 

أولاً: قلة الاعتداد بالتجربة التاريخية التي خاضتها الجماعة مع المؤسسة العسكرية بعد انقلاب يوليو على فاروق الأول ملك مصر والسودان وحتى عهدٍ قريب، فلم يعِ الإخوانُ الدرس رغم تحذيرات القريب وتلميحات الغريب.

 

ثانيًا: طرب الإخوان للنغمة السياسية بما زاد عن حدود المشروع لهم أو المعروف عنهم.. وقد أغراهم بذلك ضعفُ الآخرين أكثر من تقييم الإخوان لقوتهم ونظرتهم إلى مكامن الضعف فيهم.. تلك التي تتمثل في إهمال المسارات التربوية والروحية والدعوية بصورةٍ لافتةٍ، لدرجة أنَّ الالتحام الاجتماعي مع القاعدة الشعبية العريضة صار موسميًّا بمرور الوقت كلما دعا إلى الانتخابات داع!

 

مزايدات قيادات حزب الحرية والعدالة لم تَكُفّ عن استباق مؤسسة الرئاسة بالقرارات وفرد العضلات.. وكانت الرابطة الإخوانية هي التي حالت بين رئيس الدولة وبين اتخاذ إجراء حاسمٍ مع أولئك الذين بلغت مزايدتهم عليه واستباقهم إياه بالتصريحات والإحراجات والإكراهات

ثالثًا: مُذ وعينا، بحسب تجربتي السابقة في صفوف الجماعة، ونحن نرقُبُ روحًا غريبةً تتسلل إلى الصف على حين غفلةٍ منه، وتحديدًا منذ ولوج الجماعة في المعترك السياسي وانغماسها في دَوّامةِ العمل البرلماني منذ أواخر الثمانينات، ذلك الاتجاه الذي تجَلَّت مثالبه في كونه المدخل السهل إلى التحاق مجموعات من أصحاب المصالح بركاب الجماعة في هوجة الانتخابات البرلمانية والنقابات المهنية! وغالبية هؤلاء لم يخوضوا تجربة التربية الصارمة، بطبيعة الحال، التي من خلالها يمكن ترتيبهم داخل الصف بتوصيف معين وتقدير مواقعهم التنظيمية كُلٌّ حسب درجة تربيته.. وقد أصبح بعض هؤلاء بمرور الوقت أنانيين ونفعيين أكثر مِمّا كانوا.. وبعضهم أغرته بساطة الإخوان وتواضعهم باستلانة جانب قيادتهم والطمع فيهم والاستهانة بهم والتهكم عليهم بين مَنْ يشاطرونهم هذه الانطباعات، حتى لقد بلغ حَدَّ الاجتراء والافتراء باللمز في قنواتهم.. وقد كان ذلك كله يُقابَلُ بمزيد من خفض الجناح ومراعاة خاطر «الأخ» واحتوائه حرصًا عليه وطمعًا في استيعابه لخصوصية الصف الروحية ورابطته الأخوية.. فبمرور الوقت وكثرة الاحتكاك يمكن أن تُعالَجُ هذه الأمور!

 

لكنَّ ذلك كله لم ينتج في المقابل سوى تنامي هذه النوعية بصورةٍ تشبه نمو الكائنات الأميبية.. التي كم تغذت من دم الجماعة ونخاع أبنائها حتى استفحلت وتضخمت بصورة أعيت الجماعة عن الاستفادة منهم في أحرج لحظات حاجتها إليهم.. بل كانوا عبئا عليها بصورةٍ أعجزتها عن التخلص منهم أو زحزحة بعضهم ولو قليلاً عن مواقع النفوذ والسلطة والسيطرة والهيمنة ريثما تلتقط الجماعة أنفاسها فتستطيع استئناف حياتها على نحو يحقق لها نوعًا من التوازن والثقة والأريحية والاستقرار!

 

وبرغم كون هذا السلوك النفعي قد حذَّرَ منه مرشدهم المؤسس رحمه الله.. وبرغم كون التجارب التاريخية قد أنبأت بما لا يدع مجالاً للشك في ضرر هذه النوعية على الصف الإخواني في الأجل البعيد.. لكن يبدو أنَّ الإخوان قد أدمنوا اللدغ من الجحور، على خلاف الهدي النبوي، بما زاد عن حدود حُسنِ الظَّنِّ والفهم السليم!

 

رابعًا: تغليب الخطاب «الحزبي» على «الدعوي»، وهو الخيار الذي اضطُرَّتْ إليه الجماعة مع إغراءات المكاسب الانتخابية.. إذْ عَزَّزَ من نفوذ الكائنات الأميبية على حساب مصلحة الدعوة والإصلاح، وأصبحت الدعوة تتحمل كافة فواتير الأخطاء السياسية، وتتعثّر في مطبات العمل السياسي، وينوبها النصيب الأوفر من نكساته وتراجعاته وإخفاقاته برغم التحذير المبكر من الخلط بين «الحزبي» و«الدعوي» لِما في ذلك من مضارٍّ شديدةٍ.. ولكنَّ سيلان اللعاب العام أمام إغراءات الواقع السياسي قد أسهم في تقليل فرص الالتفات إلى تلك التحذيرات لتؤول الأمور إلى ما آلت إليه!.

 

وبحكم أنَّ العمل الحزبي ليس نشاطًا دينيًّا محضًا، فالانتماء الحزبي لم يكن مقصورًا على الإخوان فحسب، بل للإخواني وغير الإخواني.. للمسلم وغير المسلم.. فكانت كُلُّ فواتير الممارسات الحزبية تُدْفَعُ من تاريخ الجماعة ورصيدها الروحي.. وصار أيُّ نقدٍ للحزب يتجه تلقائيًّا إلى النيل من الجماعة.

 

ذلك فضلاً عن أنَّ مزايدات قيادات حزب الحرية والعدالة لم تَكُفّ عن استباق مؤسسة الرئاسة بالقرارات وفرد العضلات.. وكانت الرابطة الإخوانية هي التي حالت بين رئيس الدولة وبين اتخاذ إجراء حاسمٍ مع أولئك الذين بلغت مزايدتهم عليه واستباقهم إياه بالتصريحات والإحراجات والإكراهات درجة تعزز من مصداقية ما يدعيه البعض من كثيرًا بالصف الإخواني استكثروا على الرئيس مرسي موقعه الرئاسي!

 

خامسًا: لم يكن ثَمَّةَ فرقٌ بين مقولة «ما يراه إخواننا الكبار» في صفوف الدعوة.. وبين مقولة «ما يراه إخواننا الكبار» في دواليب الحزب!؛

 

فالأولى مقبولة وقد تكون محمودة وتنم عن تجردّ وثقة لا تشوبها شائبة بالنظر لطبيعة كلٍّ من الدعوة والتنظيم ومقتضياتهما البديهية. أمّا الثانية فممجوجة مرفوضة.. تفتقر لأدنى درجات العقل والمنطق بل ولأمانة المسئولية.. لأنَّ العمل الحزبي تجربة ارتضت لنفسها المجال الديمقراطي والمدني بمفهوميهما السياسي.

 

ولعل الإشكال الأكثر تعقيدًا في هذه النقطة، هو أنَّ غالبية «إخواننا الكبار» في صفوف الدعوة تحولوا إلى «إخواننا الكبار» في صفوف الحزب!.

 

والواقع، أنَّ البيئة الإخوانية عاشت خلال السنوات الثلاث الأخيرة تعاني خلطًا كبيرًا بين هاتين المقولتين، وإنَّ جُزءًا ليس قليلاً من إشكاليات المرحلة الراهنة مرجوعٌ إلى هذا الخلط! ليس لأنه خطأٌ مُتَعَمّدٌ، بقدر كونه خطيئةً بِحُسنِ نِيَّةٍ!.. وربما لطبيعة حداثة عهدهم بتجربة فرضتها مستجدات سياسية ومجتمعية.. وتحديات داخلية وإقليمية فوق طاقة أيِّ أحد.. ولذلك أفرزت تلك التجربة نتائج قاسية لأبعد مدى ممكن.. لكنها كانت درسًا بلغ الغاية في البلاغة.. ولكنَّ الجميع لم يزل يفهم السائل حسب تقديراته الفردية!.. وفي كُلِّ الأحوال، فإنَّ القطار السياسي لم يَفُتْ بعدُ، خلافًا لِما يعتقده البعض!..

 

يد خفية كانت تدفع بالسجال الشوريِّ إلى خوضِ الانتخابات الرئاسية برغم سَبْقِ الإعلان عن عدم خوضها.. وكان ذلك في تقديرات كثيرٌ من المحللين أحد مؤشرات الاختراق الأشد صعوبة في تاريخ الصف الإخواني

سادِسًا: في غير مَرَّةٍ يُحاطُ باجتماعات قيادات إخوانية مختلفة المستويات فتُضْبَطها أجهزة الأمن.. وفي كُلِّ مرةٍ تُعْلَنُ عنها السلطات تتعدد الاعتقالات وتنعقد لها المحاكمات العسكرية.. وفضلاً عَمّا يُعَلَّلَ بالتساهل التقليدي في التحوُّطِ والاحتراز والاحتراس.. فإنَّ كثيرًا من الشائعات أو الشبهات التي أثيرت عن اختراقاتٍ من نوعٍ ما أحيانًا لبعض مَنْ كانوا يتبوؤون مستويات قيادية داخل الصف.. وأحيانًا لصحفيين قريبين من مكتب الإرشاد بحكم محسوبيتهم عليهم.. وبعضُ لم يحالفه حَظُّ الترشيح أو التأييد في مجال العمل العام فآثروا الانتقام وإفشاء الأسرار.. وهؤلاء في مرحلة ما قلبوا رأسَ المِجَنِّ فعرضوا كافةَ ما يعرفونه وزيادة من خصوصيات الجماعة عبر وسائل الإعلام.. وبعضهم كانوا دليلاً لأجهزة الداخلية على «إخوانهم» الذين وثقوا بهم..

 

وقد لا يكون هناك دليلٌ مادِّيٌّ واضح على هذه الاختراقات أو غيرها من خلال تحقيق داخلي بمعرفة الجماعة نفسها، ولكن تبقى نقاط الضعف الثمانية هذه تُعَزِّزُ بقدرٍ كبيرٍ من أيِّ ادِّعاءٍ بالاختراق الأمني أو المنفعي للجماعة منذ أكثر من ربع قرنٍ.

 

سابعًا: ترنُّح مبدأ الشورى عند الإخوان المصريين وتراوحه في أحرج لحظات حاجة الشعب إلى وضوح موقفهم مِمّا يحيط بهم من قضايا وأحداث ومستجدات.. الأمر الذي أفسح أجواء من التقديرات السيئة الجزافية أو قل العاطفية للمشهد السياسي العام بمصر..

 

وفيما تعددت الروايات حول هذه النقطة، لكنَّ نقص المعلومات المؤكَّدَة،ِ نتيجة عدم الإفصاح عَمّا دار من مداولات، يقتضي الاقتصاد إزاء الخوض في تفاصيل جدلية حول ما إذا كانت هذه المراوحات غير المسبوقة كانت لِغَرَضِ تمرير إرادة متنفذة غير مستندةٍ إلى إجماعٍ، ولاسيما حول قرار خوض الانتخابات الرئاسية التي تفيد غالبية التقارير أنَّ القاعدة العريضة من الإخوان المصريين لم تكن راغبةً فيها.. وبدا وكأنَّ يدًا خفيةً تدفع بالسجال الشوريِّ إلى خوضِ هذه الانتخابات برغم سَبْقِ الإعلان عن عدم خوضها.. وكان ذلك في تقديرات كثيرٌ من المحللين أحد مؤشرات الاختراق الأشد صعوبة في تاريخ الصف الإخواني.. ذلك الاختراق الذي يبدو أنه بلغ إلى العصب المركزي، ولكنَّ أحدًا لم يفطن له أو أهمل رصده وتتبُّعَه أو تغاضَى عنه فيما يبدو؟!.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.