شعار قسم مدونات

رسالة إلى أمي من "مسلخ صيدنايا"

blogs- سجون سوريا

والدتي العزيزة،
أكتب إليكِ بكلماتي هذه رغم المخاطرة الكبيرة، فإذا رآني شاويش الزنزانة سيكون عقابي ساعات من التعذيب والصعق الكهربائي، لكنني وجدت أن الأمر يستحق المحاولة، فالألم لم يعد ضيفاً ثقيلاً وهو رفيقي الدائم منذ دخلت سجن صيدنايا. ربما لا يجب أن أخبرك بحالي كي لا يزيد حزنك علي، لكنني حين أدركت أن كلماتي ستبقى حبيسة جدران الزنزانة العفنة قررت أن أبثّ إليك ألمي وبعضاً من يومياتي، علّ ذلك يخفف مما أعانيه.
 

وأنا أحدثك يا أمي لمحت ملك الموت مرّ قربي ليخطف روح زميل لي نهشه مرض السلّ، بعدما رفضت إدارة السجن إعطاءه الأدوية. وبعدما أنتهي من محادثتك سأتعاون مع زملائي لنقل الجثة، بانتظار قدوم حراس السجن لأخذها. بالمناسبة، في إحدى المرات انشغل ملك الموت عن زنزانتي ثلاثة أيام فلم يمت أحد منّا، فاستاء السجانون من الأمر ودخلوا إلى الزنزانة وبدأوا فينا ضرباً وركلاً وصفعاً، وكان ذلك كفيلاً بأن يعاود ملك الموت زيارتنا ويخطف من بيننا ستة عشر زميلاً في ليلة واحدة.
 

هل تعلمين يا أمي أن الكلام ممنوع في السجن طيلة الوقت؟ حتى الأنين من شدة الألم ممنوع. الصمت في السجن مطبق، هو نوع من الصمت الذي لا يمكن استيعابه، وإذا تحلّى أحدنا بالشجاعة فقد يجازف بهمسة أنين تستجلب عليه المزيد من الضرب، وقد حدث أن أحد السجناء توسل قائلًا "منشان الله" فهاجمه اثنان من الحراس، وانهالا عليه ضرباً.
 

القاضي لا يعرف إلا حكمان، إما المؤبد وإما الإعدام. حال القاضي كحال أطباء مستشفى تشرين الذي تُنقل إليه جثث من يتم إعدامهم، فتشخيص الأطباء لأسباب الوفاة لا يخرج عن اثنين: إما توقف عمل القلب وإما توقف الجهاز التنفسي.

الرعاية الطبية عندنا يا أمي 5 نجوم، فالأطباء الذين يأتون إلينا يقومون بتعذيبنا بدلًا من مساعدتنا. بعدما أدركنا ذلك، توقفنا عن إخبار الأطباء عن مكان الألم لأننا كنا نعرف أنهم سوف يضربوننا على مكان الألم تحديداً. أًصبت بالإسهال ذات مرة، ولم أعد قادراً على تحمّل الأمر، في هذه اللحظة دخل الحراس إلى الزنزانة، وهُرع الجميع باتجاه الجدار. فرفعت سروالي ووضعت يداي على عيني وكنت أرتعد، فسألني الحارس لماذا أرتعد فقلت له أنني كنت أستخدم دورة المياه، فركلني وانهال عليّ باللكمات والركلات مستهدفة عظام قدمي لسبب أجهله. كان الضرب مبرحاً جداً، وأشبه ما يكون بمن يحاول غرس مسمار في صخرة، تمنيت حينها لو أنهم بتروا ساقاي بدلاً من الاستمرار في ضربهما.
 

سأخبرك يا أمي أمراً أخجل من مجرد التفكير به فكيف بإخبارك به. اعتاد الحراس أن يأمروا الجميع بخلع ملابسهم والتوجه إلى دورة المياه واحداً تلو الآخر، ثم يختارون واحداً منا من ذوي البنية الجسمانية الصغيرة، أو من هم أحدث سناً، أو من لديهم بشرة فاتحة، ويطلبون منه أن يقف ووجهه نحو الباب، وأن يغمض عينيه، ومن ثم يأمروا أحد السجناء الأكبر سناً باغتصابه.
 

أمي الغالية، خضعت قبل أيام لمحاكمة أمام مجموعة من الضباط في محكمة الميدان العسكرية، استغرقت محاكمتي دقيقة ونصف، تضمنت سؤالي عن اسمي والجرم الذي اعترفت بارتكابه تحت التعذيب، ليطلب مني الكاتب بعدها التوقيع على إفادتي. دقيقة ونصف يا أمي كانت كافية ليصدر الحكم عليّ بالسجن المؤبد. هو حكم مخفف، فالقاضي لا يعرف إلا حكمان، إما المؤبد وإما الإعدام. حال القاضي كحال أطباء مستشفى تشرين الذي تُنقل إليه جثث من يتم إعدامهم، فتشخيص الأطباء لأسباب الوفاة لا يخرج عن اثنين: إما توقف عمل القلب وإما توقف الجهاز التنفسي. الأطباء هناك لا ينتبهون لألوان قوس قزح على أجسادنا ولا لآثار الصعق الكهربائي ولا للعظام الناتئة من جلودنا جراء منع الطعام والشراب.
 

أخبرك عن حالي لكن حال آخرين كُثُر ليس أفضل حالاً. فكل مساء إثنين وأربعاء يدخل الحراس إلى الزنزانة ويختارون من بيننا بناء على ورقة مكتوبة يحملونها، يجمعون قرابة 50 سجيناً في باحة السجن، يمشون في طابور مطأطئ الرؤوس، يمسك كل واحد منهم بقميص الشخص الذي أمامه. بعضهم يكون مبتسماً وبعضهم الآخر يضحك بطريقة هستيرية، فقد أخبرهم السجانون أنه سيتم نقلهم إلى سجن مدني ظروفه أفضل بكثير من سجن صيدنايا، لكننا علمنا لاحقاً أن من يتم نقله ينتقل إلى دار البقاء بعد شنقه في المبنى المجاور.
 

في سجن صيدنايا يا أمي أدمغتنا تتطور بطريقة غريبة جداً، لا نفكر بشأن ما نقوم به، وإنما وصلنا إلى حالة من الهمجية، وكل تصرفاتنا جزء من معركة البقاء. باختصار، سجن صيدنايا نهاية الحياة ونهاية الإنسانية، هنا ينتهي كل شيء، ولا يعود لأي شيء معنى.
 

ملاحظة: أحداث الرسالة أعلاه ليست من وحي الخيال، وتمت للواقع بصلة كبيرة، وهي استندت في تفاصيلها لشهادات أوردها تقرير منظمة العفو الدولية الذي أصدرته بعنوان "المسلخ البشري".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.