وليؤكد على وجود نماذج أكثر سوءاً من النموذج الصومالي، فالعقل العربي بحاجة إلى تحديث بياناته ولمواكبة الواقع المعاش بكافة معطياته الراهنة، فللتاريخ دورته، فصومال الأمس كانت تدفع الزكاة لدول شبه الجزيرة العربية، وها هي اليوم تجوع بالرغم من كل ثرواتها ليشبع حكامها، وهنا يقول فيصل القاسم في مقاله من الصوملة إلى العرقنة فالسورنة.. ماذا بعد؟
(ولو قارنا وضع سوريا بالصومال الآن لاكتشفنا أن "السورنة" وليس "الصوملة" هي النموذج الأسوأ للدولة ليس الفاشلة فقط، بل لـ "الدولة الكارثة".
أخيراً: هل، يا ترى، نماذج "الصوملة" و"اللبننة" و"العرقنة" و"السوّرنة" و"اللبينة" سببها فشل العرب في إدارة ثوراتهم وتوجيهها في الاتجاه الصحيح كشعوب أوروبا الشرقية، أم انها النماذج المطلوبة دولياً تمهيداً لإعادة هيكلة عالمنا البائس خدمة لمصالح ضباع العالم وذئابه؟ هل سنكتشف بعد فوات الأوان أنهم نجحوا في استثمار الثورات لإعادة رسم خرائط العالم العربي بعد ان انتهت صلاحية معاهدة "سايكس-بيكو"، وآن الأوان لاستبدالها بتقسيم جديد للمنطقة بعد مرور مائة عام على المعاهدة البريطانية الفرنسية القديمة؟ هل تمر منطقتنا بما مرت بها من قبل عام 1916 أيام ما سُمي وقتها بـ"الثورة العربية الكبرى"، أم اننا، كالعادة، نعيب زماننا والعيب فينا).
عندما تكون مؤرخاً من دول الأطراف العربية (كالصومال مثلاً) يكون لديك فرصة التقاط صورة رباعية الأبعاد 4D من شاهق المسافة الجغرافية والثقافية بين المركز والطرف، مسافة يمكن ترجمتها إلى فقدان توازن هائل في علاقات الأشقاء العرب. |
ومما يبدو جلياً هذه الفجوة الكبيرة ما بين الصومال وما بين الدول العربية والجهل بتاريخ الصومال والتركيز على السلبيات، مما يؤدي إلى تداول معلومات مغلوطة، فالصومال يمرض ولكنه لا يموت وستظل (مقديشو) القلب النابض مقديشو المدينة التي لا تموت مهما تخضب كفها بالدماء ومهما تناثر على أرضها الأشلاء.
ومهما بات الدين ستراً وغطاء لأشباح الموت، فوحدهم المُحبون للحياة ينتظرون شروق الشمس ويتمتمون غداً سيكون أجمل ولا يستسلمون لحتمية فكرة الموت غدراً، بل يصارعون من أجل حقهم في البقاء ويناضلون من أجل حقهم المشروع في الموت موتاً طبيعاً، دون أن تستعجلهم أيدي أولئك الذي قد وكلوا لأنفسهم مهمة قبض أرواح الأبرياء! مقديشو تلك المدينة التي لا تموت يأساً لن تموت مهما تكالب عليها الأعداء، مقديشو ستظل نابضة بالحياة ورغم رائحة الموت، ستعج بضحكات الأطفال وصخب المقاهي وبقصص كفاح الأمهات وأحلام البسطاء، مقديشو قد تنتكس ولكنها لن تموت ما دامت تلك النجمة البيضاء تنير وسط السماء، ستناضل حتما من أجل حقها في البقاء، مقديشو ستنهض من تحت الركام، وستغسل كفها المخضوبة بالدماء لتعود من جديد لؤلؤة المحيط الهندي.
وكما يصف الكاتب الصومالي محمد طاهر الزيلعي هذا اللحمة في مقاله (كسبت مقديشو.. ولم أخسر دمشق). "عندما تكون مؤرخاً من دول الأطراف العربية (كالصومال مثلاً) يكون لديك فرصة التقاط صورة رباعية الأبعاد (4D) من شاهق المسافة الجغرافية والثقافية بين المركز والطرف، مسافة يمكن ترجمتها إلى فقدان توازن هائل في علاقات الأشقاء العرب: كالتغطية الإعلامية الخجولة للأطراف والحراك الثقافي المعدوم بينهم، فهناك حالة من التنميط المستمر للأطراف تجعلها مادة استهلاكية للمركز من أجل الفكاهة والغرابة أو تعاطف وقتّي ينتهي بانتهاء الحدث، هذه المادة الإعلامية المقتضبة ترسم صورة مخالفة لواقع الطرف وتحوله إلى لوحة غامضة من جزيرة "واق واق عربية" في مخيلة الإنسان الذي يعيش في المركز.
فرشتُ فوقَ ثراكِ الطاهـرِ الهدبـا فيا دمشـق… لماذا نبـدأ العتبـا؟ نزار قباني
من المؤسف القول إن العالم العربي لم ينجح في التعرف على نفسه كما يجب، وللخروج من ميراث الأسى الإعلامي، علينا إعادة معرفة جميع الدول بطريقة متساوية حتى نستطيع أن نقول ذات يوم "كسبت مقديشو ولم أخسر دمشق"، كسبت زيلع وبربرة وبندر قاسم وبلدوين وكسلا وعلي صبيح وحضرموت وأسمرة ونواكشوط ودارفور وغدامس، ولم أخسر بغداد ومكة والقدس والقاهرة والموصل والرباط. وحتى يكسب المركز علاقته الطبيعية مع الأطراف المهمشة عليه أن يستمع إلى المقالات والمرويات القادمة من التخوم والمشبعة بالقصص والفن والتاريخ والسياسة والحياة الاجتماعية ومعارك الاستقلال. ويكون هناك حوار إنساني – إنساني، حوار إعلامي – إعلامي، عربي – عربي، مفعم بروح التعارف وليس مجرد مباريات كرة قدم لا تزيد على 90 دقيقة مشحونة بالقومية القُطرية".
ومما لاشك فيه بأن اللحمة العربية والإسلامية ستعود، وستعود سوريا والعراق واليمن وليبيا بإذن الله لأن الظلام وإن طال لا بد أن يشرق الصباح.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.