شعار قسم مدونات

حيرة الثقافة

old-books
الثقافة الوطنية هي: مجموعة من الأفكار والقيم والصيغ والتعبيرات. لا تقتصر على الكتابة -أياً كان نوعها- فقط، وإنما تشكل أيضاً المعايير القيمية والسلوكية التي تُعتمد وتوجَّه، مضافاً إليها الطاقات والنشاطات التي يمارسها الناس تعبيراً عن موقف ما، أو تحديداً خاصة مع الآخر. وهي بمقدار ما تكون فكراً فإنها ممارسة أيضاً.

إن ثقافة أي شعب تمثل السمات الأساسية التي تكون وجدانه، وتعكس مدي صلابته، وتحدد كيف يفكر وكيف يواجه الأزمات، وأخيراً كيف يعبر عن موقفه، خاصة وأن الثقافة لا تستطيع الهروب من المشاكل والهموم الحقيقية للناس، ولا التنكر لطموحاتهم وأحلامهم، كما أنها خير معبّر عن الروابط الأساسية،  وتطلعات المستقبل أكثر مما ترتهن للطارئ والجزئي، كما تفعل السياسة غالباً.

إن أزمة الثقافة العربية أكثر حدة و خطورة بما لا يقاس، لأن هذه الثقافة، في المرحلة الراهنة تفتقر إلي هوية واضحة ومحددة، ولأن الفترة الماضية والحالية من باب أولي، هي من الاضطراب والتداخل بحيث لم تستطع أن تخلق تراكماً أو تقاليد ثابته تشكل أعرافاً ثم اعترافاً، إضافة إلي الحروب العلنية والخفية علي هذه الثقافة.

ولأن جوهر الثقافة الوطنية هو الوعي التاريخي للعصر والواقع معاً، وإدراك حقيقي للأخطار والتحديات، فمن خلالها إذن نستطيع قراءة الأفكار وآمال المستقبل. كما أن الثقافة ذاتها، وتالياً دور المثقف، تواجه مأزقاً ينبع من داخلها، إذ بالإضافة إلي تراجع حقول معرفية أساسية، وغياب أو تراجع الرموز الثقافية الكبيرة في الحياة المعاصرة، إضافة إلي النزعة للتخصص الجزئي والدقيق في بعض العلوم الإنسانية، وعدم قدرتها علي امتلاك رؤية شمولية، أو إمكانية الربط بين حقول المعرفة المتعددة، كل ذلك وغيره، عمّق في الأزمة الثقافية، وحدَ تالياً من التأثير الذي يمكن أن تمارسه الثقافة، وحدّ بالنتيجة من الدور الذي يمكن أن يلعبه المثقف.

وهكذا أصبحنا نواجه أزمة متعددة الأسباب والوجوه، وهذه الأزمة من الخطورة والأهمية بمكان بحيث قد لا ندرك جميع جوانبها وتأثيراتها وانعكاساتها اللاحقة؛ لأن التقدم التقني الحاصل الآن، والآخذ في التزايد والسرعة، بمقدار ما يمكن أن يخدم البشرية، ويساعد في حل عدد كبير من مشكلاتها، إلا أن هذا التقدم أعمي من بعض وجوهه، وقد تصعب السيطرة عليه إذا استمر بالمعدلات الراهنة، دون أن يكون محكوماً و موجهاً، ليس من الناحية التقنية، وإنما من ناحية الهدف الذي يراد الوصول إليه، والغاية التي يراد تحقيقها، خاصة في ظل غياب الضابط الأخلاقي، و ضمور النزعة الإنسانية التي كانت موجودة و مؤثرة في فترات سابقة.

ونظراً لسيادة روح القوة و التحكم و الاستقلال من قبل الأقوياء، ليس فقط علي مستوي البلد الواحد و إنما علي مستوي عالمي أيضاً، ونظراً للفروق التي تكبر و تتسع بين العالم المتقدم و العالم المتخلف، خاصة أن هذه الفروق لن تلبث أن تتحول، فترة بعد أخري، إلي فروق نوعية، بعد أن كانت فروقاً كمية.

إذا كان هذا هو الوضع علي نطاق عالمي ، فإن أزمة الثقافة العربية أكثر حدة و خطورة بما لا يقاس، لأن هذه الثقافة، في المرحلة الراهنة تفتقر إلي هوية واضحة ومحددة، ولأن الفترة الماضية والحالية من باب أولي، هي من الاضطراب والتداخل بحيث لم تستطع أن تخلق تراكماً أو تقاليد ثابته تشكل أعرافاً ثم اعترافاً، إضافة إلي الحروب العلنية والخفية علي هذه الثقافة لإ شغالها و إغراقها، وجعلها بالتالي متخلفة أو امتداداً لثقافات أخري و إفقارها بالنتيجة لأهميتها و دورها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.