شعار قسم مدونات

العزلة نقاء للروح وهندسة للحياة

BLOGS- التأمل

تراودني نفسي في كثير من الأوقات، لأن أختلي بجزيرة نائية، وبعيداً عن صخب الحياة، أمارس حياتي التأملية والفلسفية والروحانية، وأغوص في أسرار الروح، هذا ما أتمناه، لأن الإنسان يحتاج ولو مرة في حياته، أن يعيش منعزلاً عن الآخرين. ولأن الحياة أشبه بروتين متعارف عليه، ويكرر نفسه ولا تستطيع أن تقتل هذه الرتابة إلا بتغيير نمط وأساليب حياتك.

لو نظرت إلى سير كثير من العباقرة، مثل الفيلسوف حجة الإسلام "أبي حامد الغزالي"، فقد اعتزل الناس عشر سنين، وأخرج لنا موسوعته الرائعة وأعجوبة هذا الزمان، كتابه "إحياء علوم الدين"، ويعتبر كتابه هذا أحد أهم كتبه التي ألفها، وأحد أهم وأشمل الكتب في علم التصوف، حتى قيل عنه: من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء! كما وألف كتابه "المنقذ من الضلال"، وقد كتب فيه قائلا عن قصة اعتزاله وعودته:
لست أخلو لغفلة وسكون
وفرار من الورى وارتياح
إنما خلوتي لفكر وذكـــر
فهي زادي وعدتي لكفاحي

لكن هذا لا يتنافى مع طبيعة الإنسان كونه كائنا اجتماعيا، لا يمكن أن يعيش بمنأى عن المجتمع المحيط به، فأنا هنا لا أدعو إلى الرهبنة في الحياة والعيش في صومعة بعيداً عن مشكلاتها، وإنما أدعو أن  يكون لك نصيب من لحظات الصفاء الذهني، وذلك لا يتأتى إلا بالعزلة المؤقتة؛ فالإنسان الكامل والمنسجم مع ذاته، هو الذي يعيش في توازن مع متطلبات حياته، لا أن يهتم بجانب دون جانب. يقول صاحب الظلال في كتابه "أفراح الروح": "حين نعتزل الناس، لأننا نحس أننا أطهر منهم روحاً، أو أطيب منهم قلباً، أو أرحب منهم نفساً، أو أذكى منهم عقلاً، لا نكون قد صنعنا شيئاً كبيراً، لقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبل، وأقلها مؤونة!".

يقول صاحب الظلال في كتابه "أفراح الروح": "حين نعتزل الناس، لأننا نحس أننا أطهر منهم روحاً، أو أطيب منهم قلباً، أو أرحب منهم نفساً، أو أذكى منهم عقلاً، لا نكون قد صنعنا شيئاً كبيراً، لقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبل، وأقلها مؤونة!".

إذَنْ ما هي العظمة الحقيقية؟ يجيب سيد قطب على هذه السؤال بقوله "إن العظمة الحقيقية أن نخالط هؤلاء الناس، مُشْبَعين بروح السماحة، والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطأهم، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم، ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع". وقد قدر لي أن أخالط كثيراً من الناس، ممن أوتي علماً ونبوغا، غير أنني رأيت فيهم قُصُورًا كبيراً واضمحلالا فكرياً، وعدم استطاعتهم حل أبسط الأمور الحياتية، وسبب ذلك هو التقوقع في دائرة ضيقة، وعدم النظر إلى الأفق المتسع، فالإنسان عن طريق المخالطة ومشاركة الناس همومهم ومشاكلهم يكتسب الكثير من المعرفة والحلول لكثير من القضايا الإشكالية.

وتبقى للعزلة رونقها وسحرها، يوم أن تعتزل الناس، وتصحب كتبك وأفكارك وتجلس وحيداً تبحث عن عالمك الذي تريد أن تهندسه، يا لها من لحظات نورانية، تتجلى فيها النفس حتى تصبح بعيدا عن المراءاة والجشع، وتصبح أكثر مصداقيَّة مع نفسك وواقعك. دعني أخبرك بمقولة قالها "بليز باسكال"، الفيزيائي والرياضي والكاتب والفيلسوف الفرنسي: "تنشأ كل مشاكل الإنسان من عدم قدرته على الجلوس وحده في غرفة هادئة لفترة كافية من الزمن".

في الختام أقول لا تنسى أحلامك، وأمنياتك حاول أن تبني عالمك الذي تسمو إليه، لا تجعل أحدا يوقف طموحك، جرب كل هذا في عزلة تسمو بها الروح إلى القمة، ثم أخرج على الدنيا بهذه الأفكار والأحلام الجميلة، وصدق ابن عطاء الله في حكمته "ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكره".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.