شعار قسم مدونات

بيئة العمل في السويد

مدونات العمل

قاربت السنة حتى الآن في عملي في السويد؛ في أكثر من مكان، لم أسمع أن أحداً من الموظفين اغتاب الآخر، أو تكلم عليه بسوء!، أو حتى حصلت مجادلة أو مشاجرة، مع أن احتكاكهم كبير جداً في اجتماعات يومية وأسبوعية وحتى شهرية، كل شخص له مهامه، وبرنامج يملؤه بشكل مبسط عن نشاطه وأعماله المنجزة، فالتعامل بودّ أمر يسحر، إنه يجذب بشدة، ويثير الكثير من الإلهام، فيشعر كل موظف أن من واجبه أن يساعد زميله؛ فهذا من مهامه الموكلة عليه، ولقاء الراتب التي يحوزه، فالأرضية الثقافية المشتركة الجيدة والنشاطات في المدرسة والمرافق المخصصة للأنشطة، والثقة؛ تبني إنساناً خيراً بإعطائه فرصاً متساوية.

إحدى المديرات قالت لي وهي ضاحكة: (أنا المديرة وقد أمرت الموظف أن يغني وقد عملت اتصالاتي، لأني كلي ثقة أنه قادر) فيما قطعت إحدى المديرات الأخريات مكالمتها لتسأل الموظف إن تناول غداءه! بهذه الروح العالية يعامل الموظفون في السويد، كل الأمور والأخطاء والمشكلات على طاولة النقاش والعصف الذهني لإيجاد الحلول والملاحظات التي تدون في قوالب متسلسلة في الاجتماعات.

من المهم للغاية أن يجلس الموظفون في استراحات غير وقت الغداء، يتبادلون الأفكار، إنها ليست مضيعة للوقت، وإنما لمناقشة أدق المشكلات، ومحاولات إيجاد أفكار من مختلف الأقسام في المؤسسة

أسرد بعضاً مما عاينته في التجربة السويدية في بيئة العمل، فالفاكهة التي تقدم مرتين في الأسبوع للموظفين مجاناً في إحدى البلديات الضخمة فكرة بسيطة وجيدة، الجيم المجاني، الميزانية العالية على نشاطات الموظفين، البراد الذي يضع فيه الموظفين وجبتهم الخاصة بالغداء، النظافة والعناية بجمالية المكاتب، اللوحات بإطاراتها الجميلة تزين الممرات، والنباتات في تلك الممرات تعانق السائرين فيها، والمحافظ أو مدير البلدية تجده يمشي بسترته البسيطة المحترمة وبنطاله الجينز، حتى لكأنك تخاله موظفاً عادياً!.

من المهم للغاية أن يجلس الموظفون في استراحات غير وقت الغداء، يتبادلون الأفكار، إنها ليست مضيعة للوقت، وإنما لمناقشة أدق المشكلات، ومحاولات إيجاد أفكار من مختلف الأقسام في المؤسسة، كما أن أغنية عيد الميلاد لا يجب أن تستثني أحداً من الموظفين. فالإصغاء والتركيز في وجه الآخر والابتسام بشكل راقي، بالاستناد إلى علم النفس، أمر مميز للغاية.. الاحترام، والصدق في التعامل، والمرأة التي توكل لها مهام جيدة والتي أثبتت جدارتها بشكل ممتاز في بعضها، أمر يدفع إلى التفكير ملياً بالخروج من حالة الاستقطاب والإيمان بأن للمرأة دوراً في المجتمع، وتهيئتها للمشاركة في إعادة بناء الدول التي تحطمت بفعل الحروب. فيما القانون في السويد الذي يكفل الكرامة للجميع، وحقوق الموظف كاملة، والاتفاقيات مع النقابات، التي بدورها قد تشل حركة المؤسسة إن هي تجاوزت على الموظفين، أمر لافت ومميز في بيئة العمل.

نظام تتبع المعدات والدوام بحيث يبقى الجميع يتقاطع في المعلومات المشتركة المهمة أمر غاية في الأهمية، ومرونته بالإجازات وتعويض الوقت المستقطع ، نضمن بذلك سلاسة تسلسل الأعمال، بعض المؤسسات تستخدم جهازاً فيه وجهان حزين وسعيد، لقياس مدى رضى الزبائن، حيث يعطي الجهاز إحصائيات، أمر يجري تطبيقه في مرافق كثيرة في السويد.

يلاحظ المرء بشدة أن بعض الشركات السويدية تفخر بوضع أناس من أعراق مختلفة في صدر الأماكن في الشركة، حتى ترسل إشارات واضحة بأن لا مكان للعنصرية أو الوطنية في شركتنا، كما أنه من العدل أن ينال من اكتسب دراسة أعلى راتباً أعلى من غيره، حتى لو كان من عرق مختلف، إلا أنه مواطن في هذه البلاد، وقد أعدت الدولة نظاماً تصاعداً في الضرائب لإزالة الفوارق المادية بين الناس.. فإن إعطاءك مسمى وظيفي حسب شهاداتك أمر غاية في الأهمية، فهو بذلك يحدد الأجر الأدنى حسب اتفاقيات مع النقابات.

اللافت أن القطاع العام في السويد أقوى من القطاع الخاص لما يتمتع به من دعم مادي ممتاز من أموال الضرائب، إلا أنه يعاني من حمل ثقيل من القوانين، تجعله أحياناً بيروقراطياً

تحديد الأهداف ومحاولات تقييمها بأرقام وجداول تقدمها برامج تتبع المهام الموكلة للموظفين، والتي يملؤها هم أنفسهم، يفتح بذلك مجالا للنقاش ولا يجعل المؤسسة غامضة بالنسبة للمنتسب لها.  إن توفير المرافق الجيدة للموظف يعطيه الشعور بالولاء والحرية فلا يخاف من إبداء رأيه أو تنبيهه للمخاطر، ويجعله عنصراً فاعلاً في الخطة التنموية وليس عالةً أو حجر عثرة.. كما لا يفوتني أن أذكر دور الأحزاب السويدية -التي يسهل الانتساب إليها عبر الجوال بإرسال رسالة قصيرة – والتي تلعب دوراً كبيراً في صياغة قوانين براغماتية متغيرة كل سنة لتناسب كل الاحتياجات في المجتمع ومنها بيئة العمل.

اللافت أن القطاع العام في السويد أقوى من القطاع الخاص لما يتمتع به من دعم مادي ممتاز من أموال الضرائب، إلا أنه يعاني من حمل ثقيل من القوانين، تجعله أحياناً بيروقراطياً، وكما يقال باللغة السويدية (بطيء ولكنه موثوق النتائج). إن كل ما أوردت سابقاً من وحي المشاهدة وهذه المادة الصحفية صاغتها التجربة التي استمرت حتى الآن قرابة السنة، على أنغام أغنية فيلم Lion وهي بعنوان Never Give Up، أقدمها لك في كلمات أسلفتها لك، فالتجربة هي من تصوغ النجاح لا الأفكار المسطورة على الأوراق على أهميتها دائماً!، فبالتجربة يظهر الكثير من القصور في الأفكار حتى في السويد والحاجة لإعادة تطويرها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.