شعار قسم مدونات

الفشل من زاوية أخرى

blogs - fail
أن تعلن أنك فشلت لا يعني دائما الاستسلام، ولا يعني بأي حال أنك قد اتخذت قرار ترك المهمة التي تسعى لتحقيقها عبثا، أن تعلن فشلك في أمر بعينه، فهذا لا يعني إلا أنك قد استنفذت كل الخيارات المتاحة والممكنة أمامك ولابد لك الآن من التطلع والسعي لإيجاد خيارات جديدة، و يعني أيضا أن الطريقة والرؤيا التي تتناول بها الأمر لم تعد مجدية وربما لم تكن يوما صائبة، أن تعلن الفشل قد يكون هو الصوت الجريء في داخلك صارخا بحاجتك للتغيير، وأن تعلن فشلك في مرحلة معينة قد يمثل اجتيازك لمنتصف الطريق المؤدي للنجاح، ففي ذلك اعتراف ضمني لوجود خطأ ما في مسيرتك نحو هدفك، وإدراك واعي لوجود سبل أخرى لتحقيق هذا الهدف.


تعود الناس على نبذ الفشل ووسموه بأبشع الأوسمة، واتفق الجميع على محاربته بكل الأسلحة، لكنهم لم يفطنوا لأهمية وجوده لإيجاد الصحوة لدى البعض الذي قد أدمن مع الوقت عقاقير النجاح المسكرة حد الغفلة، ولا يستطيع معظم الناس الاعتراف بالفشل كعامل وعنصر بناء حيوي وحافز لما يأتي بعده، لذلك تجدهم يقاومونه مقاومة شديدة عدا عن نكرانه بإصرار، معتقدين أن ذلك ينطوي على قوة عزيمة وعدم استسلام، فتراهم يغرقون بالفشل حتى آذانهم، ولو تمهلوا قليلا لرأوا في التسليم المقصود وعدم المقاومة أحيانا دروس وعبر وخير كثير.


إعلان فشلك لا يحتاج إلى جمهور ومصفقين، هو همسة منبهة لحواسك وجوارحك، همسة يغديها صدقك الداخلي مع نفسك، ويزينها الطموح والرغبة الملحة للتغيير، ويدعمها ويقوي عودها الوعي والإدراك لما أنت فيه وما تسعى له.

إن الفشل المؤقت الذي مُني به المسلمون الأوائل في غزوة أُحُد ينطوي على درس من أعظم الدروس التي تحث على رؤية الفشل بصورة مختلفة، ودراسة أسبابه بحكمة، وأثره في ضبط جماح النفس المغرورة بقوتها، ولو لم يرى الأوائل ويستشعروا نعم ودلائل وأهمية هذا الفشل في مسيرتهم اللاحقة لما استطاعوا تجاوز هذه المحنة، وفي ذلك حكمة لله عظيمة، وقد تعامل القرآن الكريم مع هذا الحدث برقي كبير وبطريقة ملهمة اذ ورد ذكر معركة أحد في عدة آيات قرآنية، وفي كتاب فقه السيرة يقول الغزالي عن ذلك "مزج العتاب الرقيق بالدرس النافع وتطهير المؤمنين، حتى لا يتحول انكسارهم في الميدان إلى قنوط يفل قواهم، وحسرة تشل إنتاجهم".


أحيانا أن تعلن الفشل يعني أنك تقول لنفسك أنا قوي وسأتجاوز ذلك وأستمر، قد لا أستمر في نفس الطريق، لأن الخير في طريق آخر، قد يعني أنك ترى في الأفق شيء مختلف، فرص لم تكن تراها من قبل، إمكانيات لم تكن على وعي بأنك تملكها وآن أوان استخدامها والاستفادة منها، وربما لم يكن لك يوما أن تكتشفها لولا إعلانك هذا الفشل، هذا الإعلان الذي يهمس في أذنك وفي قلبك وفي عقلك أنك الآن جاهز أكثر من أي وقت مضى للانطلاق بخطى ثابتة نحو هدفك، ولا ينقصك إلا أن ترى الدروب المتعددة غير التي ألفتها وألفها الناس من حولك حتى أصبحت مسلمات قاهرة للروح والبدن.


إن الفشل عبارة عن عدة محاولات غير ناجحة، وعملية القيام بالأمر مرارا وتكرارا بنفس الطريقة ودون إدخال أي تعديلات على ما تقوم به بحجة الإصرار وعدم الاستسلام فهذا هو الفشل الحقيقي، أما الفشل المحمود فهو الفشل الذي يجعلك تقف مفكرا وباحثا، ويفتح عينيك وقلبك على ما كنت تعاند مكابرا لكي لا تراه، وقد يدفعك هذا الفشل حتى لأن تغير مسارك كله باتجاه آخر، إذ أصبحت ترى بشكل أوضح عدم جدوى الاستمرار بما كنت تقنع به نفسك بأنه المسار الافضل لك، ولعلك كنت فوق ذلك ترهق نفسك لبلوغه بحجة عدم الاستسلام، وهذا ما ثابرت على إقناعنا به نظريات مختلفة أهملت وتغافلت عن أن الحياة ما هي إلا عبارة عن خيارات وفرص عديدة لن يضيرنا أن نتجاوز بعضها ونعلن فشلنا عن تحقيقها، لتكون هذه بداية وانطلاقة مميزة لشيء جديد يحررنا من سجون المفاهيم القديمة للفشل.


قد يحثك البعض على التكلم مع نفسك بإيجابية، ويدعونك لإسماعها كلمات التشجيع الدائمة، والابتعاد عن كل ما هو سلبي حتى ولو كان حقيقي، وفي ذلك أحيانا تزييف وتفاؤل مؤذي وفي غير موضعه المناسب، وقد يكون الأجدى والأقوم لك أولا أن تنفض غبار الزيف الحاجب للرؤية عن عينيك، وتمسك بيدك جروحك لتعقمها من أذيال الخيبة العالقة بها، قبل أن تُسمِعَ روحك ألحان البهجة والإيجابية التي لن تؤتي أكلها ما لم تكن واقعيا.


إعلان فشلك لا يحتاج إلى جمهور ومصفقين، هو همسة منبهة لحواسك وجوارحك، همسة يغذيها صدقك الداخلي مع نفسك، ويزينها الطموح والرغبة الملحة للتغيير، ويدعمها ويقوي عودها الوعي والإدراك لما أنت فيه وما تسعى له. إعلان فشلك في مهمة ما قد يحمل في طياته صوت قرقعتك على جدران الأحزان، ومخاض خروجك بنجاح من قمقم المسلمات.. لترى أفقا أوسع وأعظم، فوراء كل نقطة فشل نقف عندها ونشعر بها تختبئ مسارات وخيارات جديدة لم ننتبه لها من قبل.. ولعل "أول الرقص حنجلة."

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.