شعار قسم مدونات

نحن والمثالية

blogs - sunset
نحن مثاليون جدا، وهذا سبب بلائنا. من يتديّن، يرى في العودة إلى الدين طريق النهضة. ومن يرى في العلمانية طوق نجاة ما زال يُنظِّر لأفق التنوير في الوطن العربي.. ولو اجتمعوا جميعا ما صنعوا لنا خازوقا واحدا.

حتّى مشاريعنا الهُويّاتية الكبرى، بكلّ شعاراتها الرنّانة "قومية. عروبية. أمّة إسلامية" ظلّتْ تحلّق في الخيال لعقود، ولم نجنِ منها سوى مزيدٍ من الخيال، وبعض القصائد الحماسيّة التي نحفظها عن ظهر قلب. بل لم نحصد منها سوى نزيفٍ مستمر من التفرقة والانقسام؛ الشعوب الأخرى انطلقتْ من الفرد، صمّمتْ الإنسان النموذج الذي تطمح له، فأخرجتْ على غراره أجيالا مبدعة وملهمة.. نحن، ولأنّنا جُبلنا على المثالية والمشاريع الكبرى، انطلقنا هبّة واحدة نحو الكلّ، فكان من نتائج ذلك أجيالا من الذوات العربية الفارغة. ليس هذا كلاما انهزاميا وإنمّا حقائق لا تحتاج إلى كشفها. وإنّ مجرّد نفي تقهقرنا هو سقوط جديد في المثالية.

يصدح صوت الخطيب جهوريّا: اللهم أعزّ المسلمين.. يردّد آلاف: آمين.. انتهت الخطبة، أقم الصلاة.
حتى في الحبّ، من يحبّ منا لم يستوعب بعد أنّ حبيبه يدخل أيضا إلى ما شرّف الله قدركم عليه. تراه فارس أحلام ويراها فارسة يقظة.. وحين يستيقظان بعد الزواج على اليوميّ المشترك واحتمالات الخلاف والاختلاف وحقائق شريكه البيولوجية والسيكولوجية، ينصدمان ويصطدمان.

الفيسبوك وباقي منصات التواصل الاجتماعي زادوا من هرمون المثالية داخلنا. في مناسبة أخرى، وحدها السّلطة والحكم، تجعل العربي أكثر واقعية.

يحادث الشاعر العربي القمر في قصيدته ثمّ ينام.. ثمّ يستيقظ.. ثمّ ينثر نسائم الصباح على متابعيه في فيسبوك.. ثمّ ينام.. ثمّ يستيقظ.. ثمّ يدخل يده في جيبه فإذا هي بيضاء.. ثمّ ينام.

يجلس أحدهم في المقهى التي اعتاد بُنَّها كلّ يوم، يستدرجك بمباراة كرة قدم، ثمّ يضع أمامك التشكيلة المناسبة وضعف المدرّب والخطّة المثالية، ثمّ يعرّج بك إلى أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية، وينفض أمامك كلّ الحلول الذكية والمثالية لأزمة البطالة والاحتباس الحراري، ويدلي بدلوه، بكلّ مثالية، في الأزمة السورية ونتائج انتخاب ترامب رئيسا لأمريكا.. إنّ لفخامته كلّ الحلول لمشاكل العالم، إلّا حلّ مشكل البطالة الذي يقبع داخله منذ سنوات.

لا أسخر هنا، فإني جزء من كلّ، رضعتُ من المثالية وفُطمتُ عليها. وحلمتُ سابقا بحياة من ذهب، وكفنٍ من حرير. وإنّ أجمل الأحلام التي أرسمها لنفسي، أرسمها من داخل بطّانية.

إنّ المثالية أشبه ما تكون بشيخوخة مبكّرة في عالم صار براغماتيّا حقا، وتقنيا وماديّا جدا. نحلم بداية بالمطلق، ثمّ يتضاءل كلّ ذلك رويدا رويدا، فتنكسر الشوكة لنستيقظ أخيرا على حقيقة فشلنا، وأنّنا لم نقدّم لأحلامنا غير مساحات ذهنية للتفكير والتأمل، ولم يتبع ذلك أي خطوة عمليّة.. ولأنّنا لا نرضى الفشل فإن مشجب تبرير الفشل معلّق في أذهاننا دائما. مشجب الآخر والمؤامرة والماسونية، والسحر والقدر.. وما إلى ذلك من قاموس جاهز لتبرير الفشل.

بالمناسبة، الفيسبوك وباقي منصات التواصل الاجتماعي زادوا من هرمون المثالية داخلنا. في مناسبة أخرى، وحدها السّلطة والحكم، تجعل العربي أكثر واقعية. ربّما نحن حالمون بالفطرة، لكن إذا كان لا بدّ من الحلم، تعالوا نحلم هذه المرّة بالواقع، وأنْ نكون – يا حلمنا – واقعيين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.