شعار قسم مدونات

لستُ أماً مثالية.. ولا بأس بذلك

blogs - mother
أجلس الآن لأكتب هذه المدونة بعد أسبوع طويل من العمل والمرض، وابنتيّ تتقافزان خلفي على السرير بعد أن طلبتا منّي أن أشغل أغاني "سبيستون". كانت الخطة أن أجلس بفردي في الغرفة لمدة ساعتين أنهي فيهما هذه المدونة ومقالة أخرى تأخرت كثيراً في إنهائها وأجهز بعض الأبحاث التي سأتخدمها في كتابة الفصل الجديد في الرسالة. لم تمر خمس دقائق إلا وتسللت الصغيرة ثم تبعتها الكبيرة وبدأت الحفلة الراقصة. النيّة أن أتركهما مع ولدهما تلعبان وتستمتعان بافتح يا سمسم وبعض الفيديوهات التي حضرتها مسبقاً. ولكن ما انشغل والدهن بالهاتف حتى وجدتا الفرصة سانحة.
 

اليوم صباحاً وجدت دفتراً لتدوين الملاحظات في الرف العلوي من الثلاجة، سألت زوجي فقال بأنه لم يضعه بالتأكيد! لا أذكر اللحظة التي قمت بوضع ذلك الدفتر في مكانه هذا ولكنني سأكف عن طرح أسئلة فقد حدث من قبل أن دفست كومة غسيل في الثلاجة بدلاً من الغسالة. لم أعد أدقق كثيراً في هذه الأحداث لكثرة تكرارها، ولأنني لم أعُد أتوقع من نفسي أن أحافظ على اتزاني العقلي وذاكرة طبيعية وأنا أحاول التوفيق بين عشرة أمور في وقت واحد، لذلك فقد توقفت منذ زمن عن تقريع نفسي بخصوص مثل هذه المواقف.

المرأة لم تفقد جزء من واجبتها وتأخذ بدلاً منها واجبات أخرى، بل هي قائمة طالت وطالت حتى أضحت معجزة لكثير من النساء فأضحى الحل الوحيد هو في الاختيار بين هذه الحياة أو تلك.

تمر علي كثيراً هذه الأيام تدوينات ومقالات لأمهات يشاركن حقيقة أن تكون المرأة أماً، أو زوجة، عاملة أو دارسة أو ربة منزل، ويعرضن تجاربهن في الحمل والولادة والتربية، أو يعبرن عن الصعوبات التي يواجهنها وعد مراعاة الناس لمتطلبات الحياة والتدخل في اختياراتهن، أو يصفن حقيقة الزواج والأمومة للحالمين والحالمات دون ترهيب أو مبالغة، وعن نفسي أجد في هذه العادة المستجدة التي تكسر حاجز الرغبة في الظهور بمظهر مثالي وتتخلى عن التصورات الخيالية للأمهات التي تقوم بصورة أساسية على توقعات مجتمع يرى في المرأة آلة وماكينة أكثر منها إنساناً. تلك الأم التي تلد وتقوم لتحصد الزرع، أو التي تعمل في الخارج وتعود لتعمل في الداخل وهي "على سنجة 10" ثم تنجب وتكثر الإنجاب حتى يقال أنها ولود صاحبة عزوة. الآن أضيفت إلى هذه القائمة ضرورة أن تكون هذه المرأة ناجحة صاحبة "كارير" أو على أقل تقدير عليها أن تحقق نجاحاً عملياً في مجال ما، لا يهم، أي شيء سيفي بالغرض طالما أنها ليست ربة منزل.

الذي حدث يا أصدقاء أن المرأة لم تفقد جزء من واجبتها وتأخذ بدلاً منها واجبات أخرى، بل هي قائمة طالت وطالت حتى أضحت معجزة لكثير من النساء فأضحى الحل الوحيد هو في الاختيار بين هذه الحياة أو تلك. ولأننا في مجتمع وعصر تغزو حياتنا فيه المظاهر والماديات، فإن المرئي والملموس هو الأهم والأكثر تأثيراً من المعنوي والمحسوس. لهذا نجد الكثير من الدعوات والأحاديث من الجنسين ذكوراً وإناثاً تتغنى بالاستقالية المطلقة وعدم الحاجة للزواج أو الإنجاب ولماذا نكدر على أنفسنا ولماذا نعيش في هم وغمّ ومحاولات للتفاهم مع كائنات أخرى مادام ممكناً أن نعيش حياة لطيفة خفيفة ليس فيها سوى العمل ثم التمتع بعائد العمل وانتهى الأمر.

ولنكن عادلين فإن هذه الدوامة التي تنتقل من جعل الأسرة مركز المجتمع ثم تحويل الفرد إلى المركز ثم الضياع ومحاولة البحث عن مخرج ليس حكراً علينا بل مرت بها مجتمعات أخرى توصف بالغربية المتحضرة، ولكن الفرق أنهم بدؤوا الآن التنبه إلى أثر مثل هذه الفلسفات على مجتمعاتهم وأخذ مفكروهم وكتابهم يتحدثون عن "وحدة الإنسان الحديث" و "أنانية الإنسان الحديث" و "سيولة الإنسان الحديث"، وتخرج دراسات وشهادات تكشف للناس مصادر "السعادة الحقيقية" أو "ما الذي يهم حقاً"، وكلها محاولات لإيقاف حركة التدهور والضياع النفسي والروحي لتلك المجتمعات. أما نحن فنصر أن نعيد ارتكاب أخطاء الآخرين وندور حيث داروا قبل أن ندرك أيضاً أن هذا ليس الحل.

ستسألونني أنا ما الحل؟
لا أعرف، ليس لدي جواب لكل الأسئلة التي أطرحها.. ولكنني سأعود مجدداً إلى أول فقرة كتبتها وإلى أفكار تتزاحم في رأسي كثيراً مؤخراً. عندما دخلت طفلتي وبدأتا بالرقص والغناء كان يمكنني أن أختار أمراً من اثنين، إما أن أترك الحاسوب وأعتبر أن المهمة فشلت وأتعلل بأنني أم وبأن بناتي لا يتركن لي وقتاً للتركيز، أو أن أتابع العمل بالقدر الذي تسمح به قدراتي العقلية حتى لا أخسر البداية التي بدأتها.

يجب أن نتوقف عن المشي كالقطيع وراء كل ما نسمع ونرى، وعلينا أن نقف أمام أنفسنا ونقيّمها ثم نقومها حتى تكون أهلاً للمهمة التي أوكلت إليها.

في خلال كتابتي لهذه المدونة انتهت الحفلة الراقصة وخرجت الصغيرتان ثم عادت الرضيعة طالبة وجبة سريعة في حضن "ماما"، استجبت لها بينما أتابع الطباعة بيد واحدة، انتهت وخرجت من جديد لتجلس مع والدها وأختها، ثم جاءت الكبرى وهي تعاني من انهيار عصبي لأنها لا تريد تلك القصة بل واحدة أخرى فخرجت وتفاهمت معها واتفقت أن تترك لي بعض الوقت حتى أنهي هذا العمل ثو أعود إليها. لا أتابع دائماً الكتابة أو القراءة أو البحث أو أياً كانت المهمة التي أقوم بها، كثيراً ما أحس بالضغط وأضعف وأترك عملي. ما يجعلني أعود في كل مرة ويدفعني إلى تجاهل انعدام التركيز، وكثرة المشتتات، وصعوبة التفرغ هو أنني أريد أن أنجز هذه الواجبات من أجل بناتي أولاً، قبل كل شيء، لأنني أعرف أنني سأحس بالتقصير إن لم أحقق هذه الأمور الأخرى إلى جانب أمومتي، هذه نظرتي لنفسي وهذا ما خططته منذ البداية.

أردت أن أكون أماً جيدة، وأن أكون أماً جيدة بالنسبة لي يتضمن أن أنهي دراستي وعملي البحثي وأن أنتج كتابياً ما ينفع النّاس. أن أكون أماً جيدة يقتضي أن لا يقتصر نشاطي العقلي على أعمال المنزل والاهتمام بالصغار حتى لا يعتري رأسي الصدأ ويجتاحني الملل، الذي يوصل الناس إلى نتائج مفادها أن الأمهات تعيسات، مملات، حياتهن فارغة.

أذكر أنني مرة كتبت حالة على صفحتي على الفيسبوك أقول فيها بأنه ليس على الأمهات أن يقمن بكل شيء، فإن أرادت المرأة أن تكون أماً فقط دون البحث عن عمل خارج البيت أو نشاط ما فهذا من حقها وليس لأحد أن ينتقص منها بسبب هذا الاختيار. عندها تعرضت لموجة من الانتقادات لأنني حسب قول الكثيرين أدعو دعوات رجعية متخلفة، تريد للمرأة أن تكون خادمة في بيت زوجها. والحقيقة أنني عنيت أن أحرر المرأة الأم تحديداً من كومة المسؤوليات التي تقذف بها كل يوم بينما يقف الرجال أنصارها الذين يريدون تحريرها ليحاسبوها على كل ما تفعل ويقيموا أداءها.

سأحاول أن ألملم هنا خيوط حديثي التي تشابكت بسبب انعدام التركيز سالف الذكر وتشتت الذهن الناتج عن صداع الزكام وصوت الغناء في الخلفية. أعتقد أننا يجب أن نتوقف عن المشي كالقطيع وراء كل ما نسمع ونرى، وعلينا أن نقف أمام أنفسنا ونقيّمها ثم نقومها حتى تكون أهلاً للمهمة التي أوكلت إليها. سأتحدث عن المسلمين الذين يؤمنون بأنهم خلفاء في الأرض وأن دينهم رحمة للعالمين، كيف تؤدي هذه الأمانة وأنت تعيش كغير المؤمن الذي يصدق بفناء البشرية والأرض والحياة التي عليها، بل ربما تكون أسوأ من كثير منهم ممن يسخرون حياتهم لخدمة غيرهم من البشر بينما أنت تقضي الوقت تحاول أن تثبت نفسك لنفسك والآخرين وتحب نفسك وترضيها بكل السبل؟

نظر إلى طفلتي وأجد فيهما عالماً كاملاً.. أجد فيهما سبباً يجعنلي إنسانة أفضل، سبباً يدفعني إلى أن أقدم على أمور لم أكن لأفكر فيها لولا أمومتي لهما.

كثيرون يتحججون بأنهم عندما ينجحون فيما يفعلون فهم بذلك يضربون مثالاُ للمسلم الناجح ويحسنون من صورة المسلمين. ماذا سنفعل بالمسلم الناجح الذي يحسن ارتداء الملابس وأداء عمل وظيفي ثم يقضي ما تبقى من يومه يتمتع بمكتسباته؟ ماذا نفعل بأمهات ناجحات مهنياً فاشلات تربوياً؟ ماذا تفعل بمجتمع تخلى عن أهم جزء فيه وأصبح شغله الشاغل تحقيق نوع من الخلاص الفردي والحياة سعيدة وكأن لا حياة بعدها. ليس عليك أيها الرجل ولا عليك أيتها المرأة أن تختارا بين حياتين كلاهما الجحيم، ولكن عليكما أن تتوقفا عن طلب الراحة وسلك الطريق الأسهل ثم نتعلل بأن الأسرة تعطلنا، أو العمل يسيطر علينا.. علينا أن نعي الرخاء والنعمة التي نتقلب فيها حيث يمكننا أن نحاول أن نتحصل على خير كل جانب من جوانب الحياة، بينما غيرنا يقضي حياته محاولاً أن يجد ما يسد به جوع أبنائه أو حتى أن يسد جوعه هو نفسه.

أنهي الآن هذه الجُمَل وأنا أتذكر أوقات مرّت عليّ كنت أفكر فيها كيف أثّر علي الإنجاب وأثر على زوجي أو علينا معاً، في الأمور التي كان يمكن أن نفعلها، الأماكن التي كان يمكن أن نزورها، الأعمال التي ربما لو حققناها لنفعنا الناس بها، أفكر وأفكر.. ثم أنظر إلى طفلتي وأجد فيهما عالماً كاملاً.. أجد فيهما سبباً يجعنلي إنسانة أفضل، سبباً يدفعني إلى أن أقدم على أمور لم أكن لأفكر فيها لولا أمومتي لهما، أجد فيهما قبل كل شيء امتداداً للحياة كنت أنا جزءاً منه، وساهمت فيه.

أعتقد بكل ما فيّ أنه من واجبي في هذه الحياة أن أكون أماً قبل أي شيء آخر، ليس فقط لأنني امرأة ولكن لأنني بكل تجاربي التي مررت بها وكل خبراتي التي خبرتها أصبحت أكثر إدراكاً لمعنى الأمومة وأكثر قدرة على النظر إليها بصورة متزنة وصحية، وسأكون قد خنت أمانة العقل والعلم لو أنني قررت أن أدفع بكل ذلك جانباً فقط لأنني أهاب ثقل الأحمال.. أدرك أنني لست أماً مثالية ببساطة لأنه لا وجود لشيء كهذا.. ولكنني لن أتوقف عن محاولة أن أكون أفضل نسخة ممكنة من نفسي، لا من أجل أن يقال أنني نجحت، ولكن لأن هذه مسؤوليتي فيما مكنني الله فيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.