شعار قسم مدونات

مع عمر بن الخطاب

blogs- عمر بن الخطاب

هنا، في بيت شقيقتي وُلدت من جديد، تغيرت حياتي.. قُلبت رأسًا على عقب، وبدأتُ أشعر أن حياةً أخرى ستبدأ.. بعقل جديد وفكر لم يكن في سابق عهدي في الجاهلية، لم أكن بكامل وعيي حين لطمتها وزوجها وضربته ضربًا مبرحًا، لكنني شعرت أنهما خالفا ما كنا عليه من أصنام وعادات، ولم أكن أتخيل أن العدوَّ سيأتي من أهل بيتي، ولم أكن أتوقع أنني سأصبح -فيما بعد- عدوًا لنفسي القديمة التي كانت تحسب الحقَّ باطلًا والنبيَّ عدوًّا والإسلامَ انسلاخًا من المعتقدات التي وجدنا عليها آباءنا!


تهيجت روحي وجوارحي حين قرأت تلك الآيات التي لامست قلبي، وأهدتني رسالة أبدية إلى آخر عمري، "طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى"، أراها تخاطبني، وتعطيني جرعات من الوعي والتعرف إلى ما حولي من حقائق مخفية تحت كبري وكبر سادات قريش وطغيانهم، لم نُخْلق لنتعب أو نشقى، خُلقنا لنكون عبيدًا لمعبود عظيم يستحق العبادة والشكر، خُلقنا لكي نضع بصمة تؤثر في من حولنا حتى لو طبعناها بخناصرنا، خُلقنا لكي نرتقي، نطوِّر أنفسنا، نحاول تحويل الحال إلى أفضل، لا أن نجلس عند أقدام أحجار لا تضر ولا تنفع ونرجو منها أن ترزقنا مولودًا ذكرًا، أو تشفينا من مرضنا حتى لا نغادر الحياة، أو نتباكى عندها حين نقدم لها الأموال والهدايا لكي تعلم بصدق نيتنا من مظاهرنا فقط، فتعطيَنا من كرمها وعطائها الذي لا ينفد! 


أشعر بطعم السعادة التي ما ذقت قبل ذلك مثلها قط! كل تلك الراحة، جعلتني أتمنى لو أنني فتحت الصحيفة قبل سنين، وبعد ذلك.. لم أعد عمر بن الخطاب كما عهده العرب، بل أصبحت كما تمنى رسول الله أن يراني، وأمسيت ليس بيني وبين الله أحدًا.

ذاك الذي قرأته، وعزفت عن سماعه من قبل، لم أكن متخيلاً أنه سيكون بهذه الصورة! فهو ليس بكلام بشر ولا بشعر شاعر ولا كهانة كاهن ولا سحر ساحر، إنه القرآن.. كلام الله، ربي ورب عدي وبني مخزوم وجمح، رب هذه الكعبة التي حرَّم، ورب السماوات والأرض رب العرش العظيم.. خذوني إلى رسول الله فأسلم! نعم، لقد استسلمت وخضعت، وفرَّغت قلبي من آثار الجاهلية وامتلأت عزة وخشوعًا وتضرعًا، تركت ما كنت أعبد ومن كنت أرافق على الشرك، وتركت لساني الذي يتحدث بكيفية الصد عن رسول الله..


هناك، في دار الندوة مع أبي جهل وعتبة وغيرهما، تركت عمر الذي كان يرعى إبل والده فيسقيها ويطعمها ويغسلها، وحملت عمر الذي سيتحدث بلسان خير كان قد استعمله بشرٍ سابقًا.. 
وصلت أصواتهم إلى وسط مكة وهم يكبرون، هل كنت سبب فرحتهم منذ أسلموا؟ "الله أكبر"!! فرحة رسول الله كانت أكبر من فرحتي بنفسي، كان يحرص على حياتي مسلمًا حرصي على قتله، وها أنا أقف بين يديه مستغفرًا ربي تائبًا.. راجعًا.


طرقت أبواب سادتهم واحدًا تلو الآخر، مَن أخشى والله أحق أن أخشاه؟ ثم أخبرهم بما فعلت، فيقول أحدهم: "قبحك الله وقبح ما جئت به"، أما زالوا على الباطل مندسين في خدعه مغمورين في حيله وكِبره! ما بال أقوام عجز عقلهم عن التفكير ولسانهم قائم في كل مكان، بالصد عن الحق أو بطلب مغفرة من أصنامهم؟ هل أنا غريبًا بينهم الآن؟ نِعْمَ الغريب أنا إن كنت وحدي صائبًا في طريقٍ يكاد أن يخلو من ماشيه، وبئس الرجل أنا إن كنت قائدًا في طريقٍ خاطئ يعج بالناس.

وحين أخبرت باقي سادات قريش وشيوخها بما فعلت، كادوا أن يجهزوا علي دون تفكير؛ لأن -الجريمة- التي فعلتها لم يكن يصح معها التروي أو النظر في الأمر، ويحهم! ألا يريدون الهداية والحق؟ ما زال كبرهم مشكِّلاً حاجزًا فوق أعينهم، يمنعهم من الوصول إلى الحقيقة، ويذكِّرهم بأموالهم وهيبتهم وسيادتهم، يسخِّف لهم أمر النار التي يتحدث عنها رسول الله، ويقودهم خلف شهواتهم ورغباتهم، يحفِّزهم على تعذيب "الصابئين" الذين سفّهوا أحلامهم وتعالوا على آلهتهم، يحاول أيضًا تغطية عقولهم ليمنعها من التفكير، أو يكسفها حين تهمُّ أن تفكر، يسيطر على كافة أعضائهم وأرجلهم وأيديهم لتبدأ بالضرب والجلد، ويبدأ اللسان بإسماع الإهانات والشتائم التي ما تلبث إلا أن تتحول لحسنات عظيمة للمسلمين على قوة عزيمتهم وتحملهم.

ذلك النور، الذي انبعث من داخل الصحيفة ليدخل إلى خلايا عقلي، ويوجهها إلى الطريق الصحيح، لأُصبح إنسانًا يفكر بالطريقة التي يفكر بها مصدر النور، فيصير مصدر النور هذا جزءًا من قلبي، وآياته تملأ كل فراغ في روحي، لأشعر بطعم السعادة التي ما ذقت قبل ذلك مثلها قط! كل تلك الراحة، جعلتني أتمنى لو أنني فتحت الصحيفة قبل سنين، وبعد ذلك.. لم أعد عمر بن الخطاب كما عهده العرب، بل أصبحت كما تمنى رسول الله أن يراني، وأمسيت ليس بيني وبين الله أحدًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.