شعار قسم مدونات

التفكير الكمي

blogs - جامعة إسلامية
درج على ألسنة العامّةِ، المثلُ الشعبيّ (استكبرْها ولو كانت مُرّةً). هذا المثل العاميّ يوضّح بصورة جليّة مقدار اهتمامنا بالحجم والانبهار بالشكل، ولو كان المضمون فاسداً تافهاً.. إنّ هذه الطريقة في التفكير تعبّر عن مرحلة من الغثائيّة التي تمرّ بها الأمم، حيث يتّجه الوعي إلى الاهتمام بالكميّة، على حساب النوع والمضمون، وتصبح التقييمات ومعايير النجاح والفشل ومجال التنافس هو تحقيق العدد الكمّيّ في كلّ شيء، وقد وصف القرآن الكريم العقليّة العربيّة بأنّها عقليّة مسحورة بالتكاثر الكميّ، فقال تعالى (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)، جاء في تفسير الطبري عن قتادة (ألهاكم التكاثر) قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضُلالاً.. والقرآن الكريم يوجّه دائماً إلى تحقيق النوعيّة، وليس الكميّة الكبيرة من العمل، فقال تعالى ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) ولم يقل أيُّكمْ أكثرُ عملاً…

وقد تحدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن هذه الظاهرة الخطيرة كعلامة مرضيّة في حياة الأمة عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ». فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ». والغثاء هو مجموعة من الفقاعات والقَشِّ التي تعلو السيل كالزبد لا وزن لها ولا مضمون ولا اتجاه ولا تلاحم بين ذراتها… فعندما يغلب الفكر الكميّ على الناس، علينا أن نركّز على التفكير النوعيّ، حتى لا ننجرَّ إلى الخدعة بحجم الأَعداد …

فاليوم هناك تكاثر في كلّ شيء… في مجال التعليم هناك عدد كبير من المعاهد والجامعات الشرعيّة من حيث الكمّ… لكن علينا أن نسأل عن نوع الدعاة الذين يتخرّجونَ في هذه المعاهد، وبأي فكر ووعي يتسلّحون؟ وما هي جودة التعليم التي تقدّم لهم، وما هو مقدار مساهمتهم في صحوة المجتمع ونهضتِهِ.
في مجال الإعلام هناك تكاثر في عدد المتابعين، والمشاهدين للمادة الإعلاميّة، ولكن ما هو المضمون الفكريّ والرسالة التي تحملها هذه المادة الإعلاميّة للجمهور؟ ما هو التوجيه النوعيّ الذي يصل من خلالها؟

علينا أن نُخرج وعينا من سحر الكمّ، وفتنة الشكل في التأثير على قراراتنا وخياراتنا وتقييمنا… إلى تعميق النظر في النوعيّة والمضمون.

حتى إنّه قد يتمّ حشد جيوش إلكترونيّة لإظهار المتابعة الكميّة، كنوع من خداع الجماهير، في تشهير الفكرة التافهة من خلال حجم وهمي من المتابعين والمعجبين، وهذا ما يدفع كثيراً من شركات الإنتاج إلى الاستثمار، فيما يطلبه الجمهور من (الأكشن) والإثارة وليس ما يحتاجه الجمهور… حتّى في مجال الطبع والنشر، فهناك عدد كبير من الكتب التي تطبع في السوق الثقافيّة اليوم، ولكن كم منها يستحقّ القراءة، ويضيف فائدة جديدة في فكر المجتمع؟ وكم منها هو اجترار مكرور لما سلف من أفكار ميتة يراد إحياؤها وتدويرها من جديد.

في مجال المقاومة والعمل العسكريّ، هناك تكاثر كمّيّ في عدد الكتائب العسكريّة والجنود والسلاح، لكن ما هي الفاعليّة العسكريّة لهذه الكتائب وما هو الاستثمار الصحيح لهذه القوّة ضمن الهدف السياسي الواضح والممكن، حتى في مجال الإنجاب والذريّة، فهناك تباهٍ وتفاخرٌ في عدد الأولاد، وهذا يكثر في الأرياف، لكن لو سألت عن مستوى التعليم والتربية.. فقد تكون النتيجة مخزية… وفي مضمار العمل الحركيّ للجماعات الإسلاميّة؛ قد استشرى هذا الداء حتى في منهجيّة الجماعات الإسلاميّة وبدأت تتنافس مع سميّاتها في الكثرة العدديّة لقواعدها وأجهزتها، ولو بالتلفيق الإعلاميّ، والضخّ الدعائيّ، وهي تدّعي لنفسها النخبويّة والاصطفائيّة.

وهذا الأمر أثار عليها حفيظة الخصوم السياسيّين، ليضعها في دائرة الاستهداف بضربة تفوق قدرتها وقوّتها الحقيقيّة على المواجهة.. إنّه في اللحظة التي يتّجه الوعي من السؤال عنِ الكمّ -مع عدم إنكارنا لدور الكمّ وأهميّته- إلى السؤال عن الكيف، ليصبح الكيف هو ميزان التقييم والنقد والمعيار.. فهذا مؤشر للاتّجاه نحو التعافي من حال الغثائيّة القاتلة إلى الإيجابيّة الفاعلة، فإنّ المرضى عندما يجتمعون لن يشكّلوا أكثر من مشفى، واللَّبنات الهشّة لا تشكّل عند البناءِ أكثر من جدار هشّ، واللَّبنات القويّة عندما تجتمع لا بدّ أنها ستعكس قوّة الجدار ومتانته.. لذلك علينا أن نُخرج وعينا من سحر الكمّ، وفتنة الشكل في التأثير على قراراتنا وخياراتنا وتقييمنا… إلى تعميق النظر في النوعيّة والمضمون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.