شعار قسم مدونات

على أعتاب الجامعة

blogs - college

اليوم أبدأ آخر أيامي في الجامعة، الآن أنا على أعتاب الجامعة، تمامًا كما كنتُ قبل أربعة أعوام، كنتُ أيضًا على أعتابها، أقف وحيدة خائفة كلي أمل وشغف، أمشي في ساحاتها بترقب وحذر، أتأمل كل صغير وكبير، أحفظها بعيناي وكأنها بوابتي للعالم، أمشط ساحتها ذهابًا وإيابًا وكلي أمل وبراءة، أحمل في قلبي أحلام الثانوي ومشاعر المراهقين واندفاعهم الجميل، أتابع مرور الأيام الثقيل، وأشعر أن انتهاء الجامعة شيء بعيد كأسراب الطيور المحلقة بعيدًا بعيدًا.

اليوم مرت السنوات ثوان، مرت وقضيتها، مرت، هذا تحديدًا أبلغ ما يمكن أن يصفها أنها " مرّت "، انقضت وأخذت مني ما أخذت، وأعطتني ما أعطت، أعطتني الكثير الذي لما أدركه إلا الآن وأنا على أعتابها أودع كل جميل فيها، ولا أري منها سوي الجميل الآن. اليوم أقف على أعتاب الجامعة بذات القلب الصغير، لكنه الآن مشتاق! لكنه الآن ملتاع! ربما لطريق الجامعة الطويل الشاق لازدحامه وتفاصيله، تفاصيله التي راقبتها لأربع أعوام ذهابًا وإيابًا، أحفظه عن ظهر قلب، ويحفظني هو أيضًا، للطريق الذي قضاه قلبي حالمًا متأملًا، وقضاه عقلي متفكرًا أو حتى مستمتعًا نائمًا، سأشتاق للطريق الذي أعرفه غائمًا ممطرًا وأعرفه، دافئًا مشمسًا، وأعرفه ليلًا متأخرًا، بعد عناء اليوم وباكرًا قبل العناء.

على أعتاب الجامعة، الآن أنظر للساحة كما لم أنظر إليها من قبل، الآن أمشي بها على مهل، سأشتاق لها حقًا! أقف على مهل لأني بعد الآن سآتي إليها كالغريبة! أودع فيها كل شيء.

الطريق الذي حملني أنا وهمومي تارة، وأنا وأفراحي وانتشائي تارة أخري، أخذ مني الوقت والجهد، وأخذتُ منه التأمل والتهوين والتمهل. طريق السفر الجميل الطويل، صديقي الذي لم اختره، صديقي الذي صنع لي كونًا خاصًا بي، مناخًا خاصًا بكل كتاب قرأته، وكل كلمة كتبتها، وكل حدث عرفته، مناخًا غائمًا لهذه الرواية، وحارًا لهذا الكتاب، وسريعًا لهذا الحدث، وقريبًا ممطرًا لهذه الرسالة العزيزة.

على أعتاب الجامعة، الآن أنظر للساحة كما لم أنظر إليها من قبل، الآن أمشي بها على مهل، سأشتاق لها حقًا! أقف على مهل لأني بعد الآن سآتي إليها كالغريبة! أودع فيها كل شيء، أودع فيها البراح، أودع فيها مراهقتي، أودع فيها الثورة، أودع فيها قلبي المندفع، وأفكاري الأولي الساذجة، أودع فيها الصباحات الرائقة، أودع فضاءاتها الواسعة، أودع كوب الشاي الساخن على عجل، والطعام مجهول الهوية اللذيذ، أودع قلبي… مشاعري الأولي… أودعني في هذه الساحة المفتوحة على السماء التي لم تغلق في وجهي يومًا.

الآن، على أعتاب الجامعة، أقف على بوابة الحياة خائفة، كما كنتُ قبل أربعة أعوام، أقف على بوابة الجامعة خائفة مترقبة، الآن أودعها وأودع اندفاعاتي الأولي وقلبي البريء، واتشبث بآخر ما لدي من الحماسة الأولي، التوق الأول، الشغف الأول، الأمل الأول، المراهقة العزيزة على قلبي الآن، الحماقات، اتشبث بالبدايات، أحاول ألا أتركها هنا في ساحة الجامعة الواسعة، أجاهد ألا تبقي ذكرياتي هناك  وتأخذني الحياة وأبوابها إلى دوامة لا أعرفها ولا تعرفني! إلى مكان غريب جديد لا أعلم ما يناسبني فيه، لا اعلم هل سيألفني؟ هل سأنجح؟ هل ستمر الأيام كأيام الجامعة؟

أنا الآن أقف على أبواب الحياة الواسعة الكثيرة، أقف على بوابة القدر حقًا، وأترك بوابة الواجبات والروتين والإجبار الذي كنت ألعنه، لكني الآن أشتاقه وأبكي عليه! وحيدة والأبواب مصفدة وكثيرة، لا أعلم أيهما سيفتح لي؟ ومتي سيفتح؟ وماذا أريد؟ أنظر لبوابة الزواج، بوابة الحب الناضج المسئول، هل هي حقًا بوابتي؟ أنظر إلى بوابة العمل بانبهار وخوف، إلى بوابة المال بتساؤل، إلى بوابة السفر بشوق، إلى بوابة التعلم بألفة. أنظر متأملة، خائفة، مترقبة، أنظر وانتظر يا قدري المحتوم، فلأتحملك ولترفق بيّ!

دخلت الجامعة والآمال تعانق السماء، كنت أريد أن أتعلم ست لغات وأسافر ست دول، و أقرأ مائة كتاب وأنشر ألف مقال، وأكتب رواية أفرغ فيها روحي، الآن أخرج ولما تعطني الجامعة ما تمنيت، لكن أعطتني أكثر مما تمنيت، ربما كانت ثمرتها الجميلة أيام الثورة، وليالي المظاهرات المجيدة، أعطتني الحنين وعلمتني ودفعتني إلى بوابات الحياة دفعًا. سأترك أعتابها الآن وأدعو الله ألا أفقد قلبي الأخضر، ألا أفقد جمال البدايات، ألا تُمحي الذكريات من قلبي، وألا يتركني بهاء ساحة الجامعة، أن تلازمني مراهقتي وقلبي المندفع، وأن أكبر وأستقل بلا خوف ولا رهبة، وأن يلازمني الحنين والتوق، أن أكمل الطريق إلى نهايته أو إلى نهايتي، أن يفتح الله لي الأبواب المصفدة، وأن أتقبل قدري المحتوم ولا أعانده ولنترفق ببعضنا البعض، وأن تمر الأيام؛ فبعد عمر عريض أقول ها قد مرت الحياةُ كما مرّت أيام الجامعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.